عودة محسن
منذ عشرة أعوام كتبت عن "محسن" ..
هل تذكره ؟ ذاك الفتى الأحمق الذي لم يكن قادرًا على أخذ حقه من الأوساخ المحيطين به .. ويبرر هذا بأنه شاب مهذب وخلوق ؟
لا تعرفه ؟ إذن أقول لك أنه كان فتًى أحمق لم يكن قادرًا على أخذ حقه من الأوساخ المحيطين به .. ويبرر هذا بأنه شاب مهذب وخلوق ... هذه معلومات تكفيك .. فعلى أية حال لسنا هنا في سلسلة أفلام حرب النجوم ولست مطالبًا بمشاهدة جميع الأجزاء لتفهم الجزء الأخير ...
قررت أن أتفقد "محسن" لأطمئن هل مازال ساذجًا أم حولته الأيام إلى ذئب آخر !!
كم تغيرت يا "محسن" !!
لم تعد ذات الشاب ذو العشرين ربيعًا الذي كنته .. الآن تتقدم نحو الثلاثين بخطى سريعة .. وقد رسم الهم خطوطه على وجهك .. وعلى بعض شعيرات من رأسك لتصطبغ بالأبيض ..
ما أخبار حياتك ؟
تخرجت يا "محسن" من الكلية ... ظللت عاطلًا فترة طويلة ...
لكنك دائمًا تقول أن "لعله خير" و "أكيد ربنا شايل لي حاجة كويسة" ..
عملت في وظائف عجيبة برواتب أعجب .. 400 جنيه .. 700 جنيه ..
تكافح كل يوم بلا أمل وبلا عائد وبلا فائدة !!
لكنك يا "محسن" رجل مؤمن واثق ... ولا تكف عن ترديد "أكيد في خير جاي" ..
أحببت فتاة ثم تركتك .. والآن أنت تعاني آثار الخازوق العاطفي ..
لكنك دائمًا تؤمن أن "الحمد لله .. مش يمكن كنت هتعذب معاها وربنا بعدها عني ؟ أكيد ربنا له حكمة .. لعله خير"
أو "أكيد ربنا شايل لي واحدة أحسن منها" ..
وجدت أخيرًا عملًا لا بأس به ؟ وبراتب معقول ؟
تقول أنك تعاني من صعوبة العمل ؟ تقول أنك تعمل بما يعادل 10 أضعاف الراتب الذي تتقاضاه ؟
لكنك مقتنع أن "خبرتي بتزيد" و "لو ماكنتش هتبهدل وأنا لسة شاب هتبهدل إمتى ؟" وأن "أكيد ربنا بالبهدلة دي بيجهزني لشغل أكبر وأعلى بكتير" و "أنا أحسن من غيري" .... وفي النهاية "لعله خير" ...
تواجهك المشاكل والبلاوي والمصائب من كل اتجاه .. لكنك ثابت وعلى وجهك ابتسامة بلا معنى وتردد بلا توقف "لعله خير" و "أكيد في خير جاي"
ترى نفسك الآن ناضجًا قويًا ...
في الواقع يا "محسن" أنت لاتزال أحمقًأ كبيرًا !!
لا داعي لنظرة الصدمة البلهاء ... أنت بالفعل أحمق !!
تخيل أن ترى شخصًا التف حوله البلطجية وأكل علقة ساخنة .. وتجده مبتسمًا سعيدًا ويؤكد أن هذا كله خير .. وأن تلك العلقة هدية من الله !!!
ما هو رأيك فيه ؟ أحمق أليس كذلك ؟
أنت مثله تمامًا يا "محسن" !!!
أنت لم تجد عملًا بعد التخرج لأن الكلية لا علاقة لها بسوق العمل .... ولأن الوضع الاقتصادي سيء .. ولأن بلدك لا يريدك ولا يهتم بك !!
الله لم يفعل هذا ... بل فعله بشر مثلي ومثلك قرروا أن ينهبوا خير البلاد ويحولوه إلى جيوبهم !!
لاحظ صديقك ذو الواسطة القوية الذي عمل فور تخرجه في شركة ضخمة براتب كبير تحيطه الأصفار من كل جانب !!
لاحظ صديقك الذي لم يضطر مثلك لجمع المال لشراء شقة ضيقة في شارع قذر ليستطيع الزواج .. بل اشترى له والده شقة فخمة في منطقة راقية !!
أنت شاب محترم تراعي بنات الناس ... ألم تر صديقك الذي لم يكف عن الـ"عط" مع المزز طوال حياته ؟ الآن تزوج فتاة محترمة جميلة بنت ناس لا تستطيع أن تحلم أنت بها !!
ولا تقنع نفسك أنه بالتأكيد "ربنا مش هيباركلهم" ... في الواقع هم يعيشون أفضل حياة وسيظلون كذلك !
كل معاناتك في الحياة يا صديقي سببها بشر ... بشر جعلهم الله مخيرين وليسوا مسيرين ...
هم اختاروا أن يجعلوك تعاني ...
هم اختاروا أن تظل تكافح طوال حياتك بلا أمل ...
وليسوا مجبرين أن يمنحوك نهاية سعيدة !!
لم تفهم ؟ واحدة واحدة ..
منذ فترة عملت في دولة أفريقية بالغة الفقر .... نهب حكامها كل خيرها بلا توقف منذ استقلالها في الماضي ...
رأيت بشرًا ولدوا معدمين ... وعاشوا معدمين .. وماتوا معدمين ... ولم يروا خيرًا في يوم واحد من حياتهم ..
رأيت ذلك الشيخ الإفريقي المسلم ... الذي حفظ القرآن في صغره ... ولكنه مع بداية العشرينيات من عمره أصيب بضعف النظر ..
ضعف نظر عادي .. يمكن أن يحل بكشف نظر وعمل منظار طبي بسيط ...
لكنه كان أفقر من هذا !!!
ظل نظره يضعف حتى ضاع تمامًا .. وأصبح الرجل كفيفًا ...
وحين جاء "الخير" متمثلًا في مؤسسة خيرية حاولت مساعدته .. أقر الأطباء أن الأوان قد فات .. وسيعيش الرجل بقية عمره لا يرى !
كان ذلك الشيخ يأتي إلي في مقر عملي كل فترة مجروحا تغرق الدماء ثيابه لأن سيارة أو دراجة صدمته ولم يرها ... ويطلب مني المال ليستطيع الذهاب للمستشفى !!!
كنت أرمقه عاجزًا عن الرد .. عاجزًا عن فعل أي شيء ... فقط كنت أخرج كل ما في جيبي وأعطيه له .. محاولًا إيقاف تمزق قلبي على حاله !!
ترى يا "محسن" هل يترك الله هذا المسكين بلا "خير" قادم ... ولكنه يعوضك عن "ندى" الجربانة التي تركتك بفتاة أفضل ؟ هل ترى حقًا أن كل هؤلاء في المجاعات والقرى المعدمة لم يستحقوا الخير القادم ... لكن آلامك العاطفية وعدم قدرتك على شراء شقة تستحق ؟
من قال أن هناك خير ؟
من قال أن الله ملزم ـ سبحانه وتعالى ـ بأن يمنحك نهاية سعيدة ؟
آلامك ومشاكلك سببها بشر ... بشر اختاروا أن يؤذوك .. سواء كانوا الحكومة الحرامية .. أو خطيبتك المجنونة .. أو رئيسك في العمل عديم الرحمة ...
هل فهمت ؟ كل هؤلاء اجتمعوا عليك كالبلطجية ... وضربوك ذات العلقة الساخنة !!!
إذن أنت أحمق ... فلا أحد يبتسم ويتفائل بعد العلقة إلا إذا كان أحمقًا ..
غالبًا ستظل حياتك كربًا وسيئة طوال عمرك ...
لا يوجد خير قادم ... لا يوجد نور في نهاية النفق ...
وحتى لا تتهمني بالإلحاد ... ليس معنى كلامي أن الله ـ عز وجل ـ غير موجود مثلًا ..
أنا فقط أعدل مفاهيمك ... فأنا أرى أننا لم نفهم هذا الجزء من الدين بشكل صحيح ..
في الآخرة حتمًا ستنال جزاء ما فعلت .. سواء خيرًا أو شرًا ...
ما أقوله أنك قد لا تجازى في الدنيا ... قد تظل تعاني طوال حياتك !!
واللصوص والمرتشون لن يعاقبوا في الدنيا ... وإذا حكى لك أحدهم عن واحد عاقبه الله في الدنيا بالمرض أو الإفلاس ... أستطيع أن أحكي لك عن ألف واحد منهم عاش بهناء ورخاء ومات بهدوء في فراشه الوثير !!
اغضب يا "محسن" .. اغضب واكتئب واحزن ... لا تسمح لأحمق آخر أن يقول لك "اكتئابك ده يأس من ربنا .. لازم تؤمن إن في خير .. وكل ده بيحصل لحكمة" ..
لا تسمح لأحد أن يشكك في إيمانك لأنك حزين أو مكتئب ... لا تسمح لأحد أن يحولك إلى أحمق منعدم الشعور يتلقى الضربات ويبتسم ببلاهة ..
لا .. ليس ضروريا أن تتركك حبيبتك "لحكمة" .. ولا أن تعاني في عملك وحياتك "لحكمة من ربنا" ...
وليس ضروريًا أن تنتهي معاناتك نهاية سعيدة ... لسنا في فيلم عربي للأسف ..
أنت عانيت لأن غيرك قرر أن تعاني ... بكامل اختياره الحر ...
معاناتك سببها بشر ... ليس رب البشر ... والبشر مخيرون كما اتفقنا ...
نحن نخدع أنفسنا بهذا الكلام الفارغ ... نحاول أن نصبر أنفسنا بأن هذا كله "خير" .. نوهم أنفسنا أننا ليس بيدنا شيء .. وأن كل هذا الألم قدر ليس بيدنا أن نغيره .. وأنا أكره أن أخدع نفسي ..
أفضل أن أعيش الألم .. وأتغلب عليه وأنا مقتنع أنه شر وألم وعذاب ... وليس بأنه "أكيد خير"
ليس كل شيء خيرًا ... وليس كل شيء حكمة من الله ... هناك شر مجرد .. هناك ألم ..
إذا حاول أحدهم أن يؤكد لك أن كل ما تعانيه وكل آلامك خير ولحكمة من الله .. أمسكه واضربه على قفاه بأقصى قوتك ... ثم هشم أسنانه بلكمة ... ثم اضربه شلوتًا بين ساقيه ... واضربه بالروسية في رأسه.. ومع كل ضربه قل له أن هذا الضرب خير ... وحكمة من الله ... عليه أن يصبر وألا يتألم وإلا كان إيمانه ضعيفًا .. وأن الله حتمًا يخبئ له الخير في طيات هذه العلقة ...
اضرب يا "محسن" .... اضرب ...
