Friday, March 26, 2021

لعنة مثل كساندرا


لعنة مثل كساندرا ! 

لعلك تعرف شيئًا عن الأساطير الإغريقية .. 

لم يكن الإغريق بناة مهرة .. وتماثيلهم ومعابدهم رديئة جدًا .. ولا ينقصها إلا ملصق "صنع في الصين" .. 

لن تجد بناءًا محكمًا يحبس الأنفاس كالأهرامات .. أو تمثالًا لم تزده السنين إلا روعة 

بل سترى كتلًا صخرية نصف محطمة .. أو عمودًا متهالكًا يستند على عمود آخر مهشم .. 

لكن لا أحد ينكر أن أساطيرهم لا تضاهيها أي أساطير أخرى ! 

قد تنبهر بأسطورة البابلي "جلجاميش" .. أو الإيراني "رستم" .. أو المصري "أوزوريس" .. 

لكنك إذا دخلت عوالم الميثولوجيا الإغريقية .. فلن تخرج منها أبدًا ! 

اقرأ روائع "هوميروس" .. الإلياذة والأوديسا .. وحبذا لو كانت بترجمة العبقري "دريني خشبة" .. 

ستدخل عالمًا معقدًا من الآلهة الغاضبة .. واللعنات الكابوسية .. والوحوش .. والأبطال المتشبعين بالتستوستيرون لدرجة الانفجار ! 

لعلك سمعت عن "لعنة سيزيف" .. 

سيزيف – كالعادة – بطل إغريقي .. غضبت عليه الآلهة – كالعادة أيضًا ـ فلعنوه بأن يظل طوال عمره يجر صخرة ضخمة من سفح الجبل إلى قمته .. ثم تسقط الصخرة .. ويعيد سيزيف دحرجتها إلى القمة مرة أخرى .. وهكذا بلا نهاية ! 

تظنها لعنة قاسية خيالية ؟ إذن عليك قراءة كتاب "الغريب" لألبير كامو .. وحينها ستدرك أن حياة سيزيف العبثية لا تختلف كثيرًا عن حياتك ! 

هناك لعنة أخرى لا تقل قسوة في رأيي .. 

فتاة تدعى "كساندرا" .. ابنة الملك "بريام" .. فاتنة تلوي الأعناق كلما مشت في الشوارع كالعادة .. 

لحظها الأسود يراها "أبوللو" .. إله إغريقي طائش هايف .. ويقع في حبها فورًا .. 

ترفض كساندرا حبه .. هي إذن فتاة نادرة الوجود .. الفتيات في عصرنا قد تركلك بعيدًا إذا جاءها عريس من حاملي الريال والدرهم في الخليج .. ما بالك بأبوللو ذاته ! 

على أية حال غضب أبوللو ـ برضه ـ وقرر أن ينتقم .. 

لا .. لم يرم على وجهها ماء النار .. ولم يكن هناك فيس بوك أيامها .. فلن يستطيع فضحها أو عمل أكونت بصورها العارية للأسف .. إذن اللعنات هي الحل الوحيد ! 

ألقى عليها لعنة فريدة فلسفية .. وتدل على خيال خصب .. 

كانت لعنة كساندرا أن تعرف المستقبل .. لكن دون أن يصدقها أحد ! 

لم تفهم ؟ 

تخيل أن ترى صديقك يعبر الشارع غير منتبه .. وهناك سيارة مسرعة ستصدمه لا محالة .. 

تصرخ محاولًا تحذيره .. لكنه لا يصدقك ويسخر منك .. هوب .. تصدمه السيارة ويموت ! 

تخيلت ؟ تخيل إذن أن تقضي عمرك كله تصرخ محذرًا من حولك من المصائب التي تراها قادمة بأم عينيك .. لكنهم لا يصدقونك !! 

طبعًا تحولت "كساندرا" إلى مجنونة المدينة .. لا أحد يصدقها .. وتصرخ بتحذيرات مخبولة طوال الوقت .. 

والغريب أن أحدًا لم ينتبه أن نبوءاتها تتحقق دائمًا .. 

لكن ذاكرة البشر ضعيفة دائمًا .. وآفة حارتنا النسيان كما تعرف ! 

آآآآه .. أخيرًا وصلت لموضوع المقال بعد هذه المقدمة الطويلة إلى حد الاستفزاز !! 

ماذا ؟ هل ظننت أن المقال يتكلم عن الأساطير الإغريقية ؟ 

يا صديقي أنا كاتب كئيب .. هدفي ليس تثقيفك أو رفع مستوى وعيك .. بل صب حمم سوادي وغضبي على رأسك حتى تكره حياتك ! 

وأصل الحكاية أني اكتشفت أني ملعون ... 

ولعنتي هي عدم النسيان ! 

أنا لا أنسى الماضي أبدًا .. 

أتذكر كل شيء بتفاصيله .. بكلماته .. بتعبيرات الوجه .. بالمشاعر .. 

كلما حكيت ذكرياتي الزبالة لأحدهم يقول لي نفس النصيحة .. أنت عالق بالماضي .. ولابد أن تنسى وتواصل حياتك .. 

أصرخ أني عاجز عن هذا .. لا أستطيع أن أضغط زرًا فأنسى الماضي بآلامه ! 

أحيانًا أجلس مع صديق .. وأذكره بموقف ما جمعنا منذ عشر سنوات .. وأفاجأ أنه لا يذكر أساسًا أنه كان يعرفني حينها ! 

ويصاب بالذهول من التفاصيل التي أذكرها !! 

حتى الآن تزورني كوابيس بما رأيته في "مالاوي" .. 

أتذكر آلام الانفصال في ارتباطاتي السابقة .. 

أتذكر غدر الأصدقاء .. صعوبات الحياة .. مشاكل العمل .. 

كل شيء .. بكافة التفاصيل .. 

تتحول كل الذكريات إلى غضب مكبوت .. 

تقول أغنية "بيتادين" العبقرية "اتحكمت في كل حاجة إلا الغضب" .. 

نعم .. أنا قد تحكمت في كل شيء بحياتي .. 

استطعت مواجهة أي حدث مفاجئ .. ودون أن تهتز شعرة في رأسي .. 

استطعت التحكم في مشاعري .. وأن أدهس قلبي تحت حذائي إذا شعرت أن خازوقًا جديدًا يحاول الاقتراب .. 

نجحت في مواجهة أي ضغوط مهما كانت .. دون أن أنهار .. 

لكني عاجز عن التعامل مع الغضب الناتج عن الذكريات .. 

قوة غضب سوداء تسمم روحي .. وأكبح جماحها بصعوبة كفرس حرون .. 

وحين يسيطر الغضب على كياني .. أختفي تمامًا .. وأنعزل عن الجميع حتى لا أسبب ألمًا لأحد .. 

الذكريات .. الذكريات .. 

لعنة عدم النسيان .. 

لا أحد يملك حلًا إلا الكلام المعتاد .. ارمي ورا ضهرك عشان تعرف تعيش .. 

ياللسذاجة .. كأن الأمر بهذه البساطة ! 

والنتيجة ؟ 

انفض الجميع تقريبًا من حولي .. وبقيت وحيدًا محاصرًا بظلال الماضي الخانقة .. 

أجلس في غرفتي وحيدًا .. أحارب الاكتئاب وحدي .. أحاول إخراج أصوات الذكريات من دماغي .. ودائمًا أفشل ! 

وجود البشر غالبًا يأتي بنتيجة عكسية .. كخطيبتي السابقة التي لم تتحمل وهربت فورًا .. 

مع الوقت استغنيت تمامًا عن كل البشر .. قبل أن أتحول إلى كساندرا أخرى يسخر منه الجميع .. 

كنت أتمنى سابقًا أن يكون هناك من أستطيع أن أشاركه حزني .. أما الآن فقد أصبحت أتهرب من أي أحد يحاول التقرب مني .. 

انعزلت تمامًا .. واستسلمت لأشباح الذكريات التي تحاصرني طوال الوقت .. 

وتحولت حياتي إلى أيام أنتظرها أن تمر بفارغ الصبر .. 

لا أهتم بأي أغراض دنيوية .. لا أسعى إلى مجد أو منصب أو مال .. 

كل ما أتمناه هو لحظة من راحة البال .. 

كل ما أتمناه هو النسيان .. 

إذا كنت ممن يتمتعون بذاكرة ضعيفة .. فلتحمد الله كل يوم على نعمته .. 

وكن ممتنًا أنك لست مثلي ..