مذكرات هلفوت
قال لي بابتسامة :
-"هذا الشاب سيكون مديرًا ناجحًا يومًا ما !
نظرت إلى من يقصده .. شخص ذو هيبة رغم صغر سنه , هل يشبه الفنان "حسن كامي" أم أن لفتاته وحركاته المحسوبة هي السبب ؟
حتى حين يشعل سيجارته . يضعها بين شفتيه بأناقة , ويشعلها وهو يميل رسغه في وضعية تشبه "جيمس بوند" في أفلامه , وقارنتها بطريقتي التي تجعل كل من حولي يشك أني أشعل سيجارة ملغمة بالحشيش !
رددت بابتسامة مماثلة :
-"بالفعل .. بعد عشرين عامًا من الآن سيكون هو مديرًا كل وظيفته أن يحضر اجتماعات طويلة , ينادون بعضهم فيها بأسمائهم مصحوبة بلقب "بيه" , ويضحكون ضحكات البشوات المفتعلة . وفي نفس الوقت سأكون أنا ساهرًا في العمل لأن هناك مشروعًا سيتم تسليمه في الصباح !"
فهم قصدي على الفور . وضحك معلنًا صحة توقعي ..
أنا شخص هلفوت .. حرفوش ضمن الحرافيش ..
دائمًا أفشل في انتزاع الاحترام . قد أظفر بحب الناس أحيانًا . لكن يظل الاحترام والهيبة أحلامًا بالنسبة لي ..
عديم الكاريزما .. ومن السهل أن تنسى وجودي أصلًا ..
أذكر في مرة أني حضرت مقابلة عمل في مكان سيادي . لأجد المدير ينظر إلي بشرود , ويسألني إن كنا قد التقينا سابقًا .. ولم أعرف كيف أخبره أني كنت ألقاه أسبوعيًا على مدار أربع سنوات بصحبة مديري المباشر !!
في الماضي كنت أعتبرها نقطة قوة .. وكان مديري في العمل يستغل هذه الميزة في اصطحابي بالاجتماعات الهامة لألتقط أي معلومات تفيدنا دون أن يشعر بي أحد !!
تخيل أننا ـ كشركة مقاولات ـ كنا نعمل في مشروع يتبع جهة حكومية حساسة .. وطلبونا يومًا في اجتماع يخص إنهاء الأعمال واستلام المشروع ..
وصلت مبكرًا قبل رؤسائي .. وجلست في قاعة الاجتماعات وفتحت الـ"لاب توب" .. لأفاجأ بلجنة الاستلام الممثلة للهيئة الحكومية قد وصلوا جميعًا .. وجلس رئيس اللجنة ـ الذي رآني مئة مرة من قبل ـ على رأس طاولة الاجتماعات .. وقال بصرامة :
-"لقد تعمدت أن أجمعكم باكرًا قبل وصول ممثلي شركة المقاولات .. لنتحدث بحرية ونرتب ما سنفعله معهم !"
وبالطبع سمعت كل خططهم وكل ما يدبرونه ضدنا .. المشكلة أني كنت جالسًا وسطهم .. لم أختبئ أو أزرع جهاز تصنت !!
قلت لك .. هلفوت ..
عجزت دائمًا عن لعب دور المدير .. طبعًا من الصعب أن يهابك شخص كمدير في حين أنه منذ ليلة واحدة كنت معه نلعب "البلايستيشن" !
في الفترة القصيرة التي قضيتها كمدير عجزت عن انتزاع الاحترام .. قد أكون كسبت الجميع كأصدقاء .. نلتقي على القهوة كل فترة .. لكني فشلت في الحصول على هيبة المديرين ..
لم أنجح في أن أكبر وأصبح خطيرًا كالآخرين .. ومازلت أعد الساعات في العمل وكل ما يشغلني هو أي قهوة سأجلس فيها ليلًا ..
ذات يوم اجتمع كبار الشركة , وظلوا يتحدثون بخطورة عن أحد المهندسين . ويضعون الخطط للتعامل معه خاصة أن وضعه حساس .. وكيف نستطيع الحصول على المعلومات التي يحتفظ بها لنفسه ..
المشكلة أن هذا المهندس أصغر مني بكثير .. ولم أفهم كيف استطاع أن يصبح شخصًا خطرًا لدرجة أن اجتماعًا كاملًا يدور حوله !!
أما أنا فمازلت حرفوشًا .. عاطلًا عن الكاريزما .. لا يشكل أي خطورة إلا على نفسه .. !
هلفوت كل تفكيره هو استخراج أي "إفيه" من المواقف .. ومن الصعب أخذه على محمل الجد !
هل السبب هو أنني أشبه "ماجد الكدواني" ؟
لا أظن .. كان هناك شخص يشبه "يونس شلبي" بشدة .. لكن مجرد حضوره كان يقلب المكان رأسًا على عقب !!
مشكلتي أني كبرت في السن ..
والهلفوت سيظل صغيرًا مهما فعل .. وأنا صرت عاجزًا عن التركيز في عمل الهلافيت ..
ضعف بصري وأصبح رقم 2 يتحول إلى رقم 3 بمعجزة ما .. ولم أعد أستطيع الجلوس لساعات طوال أمام الكمبيوتر كما كنت في الماضي ..
صرت صعب التعلم .. أحتاج إلى إعادة الخطوات ألف مرة لأحفظها .. وأنساها مجددًا بعدها !
في مالاوي منذ أعوام كنت أتحرك بسيارة نقل عتيقة بلا فرامل تقريبًا .. وأشرف على مشروعات المسافات بينها لا تقل عن 50 كيلومترًا .. وكنت أمر على خمس مشروعات على الأقل يوميًا ..
وقبل السفر كان عملي وسكني في الساحل الشمالي قرب العلمين .. أحيانًا كنت "أخطف رجلي" وأقفز في ميكروباص وأعود إلى الإسكندرية لأجلس مع أصدقائي على القهوة لساعتين ثم أعود مجددًا لعملي الذي كان 18 ساعة يوميًا !!
في هذا الوقت لم أكن أشعر بأي تعب .. ولم أهتم بجودة السكن الذي أعيش فيه ..
كنت أنام مقلوبًا كالخفاش وأستيقظ مفعمًا بالنشاط .. أما الآن فقد أستيقظ وعظامي تؤلمني لأني "نمت غلط" .. ما معنى هذا أصلًا ؟
كبرت سنًا ولم أكبر مقامًا .. اكتسبت الحب نوعًا ما .. ولم أكتسب ذرة احترام واحدة .. ومازلت شخصًا خفيفًا هايف يسهل أن "ياخد على دماغه" .. وقابلًا بسهولة للاستغناء عنه دون الشعور بأي فرق .. محض مهرج يلقي الإفيهات ويتم التعامل معه على أنه طفل عاجز عن فعل شيء وحده ..
ببساطة .. هلفوت ..
