أنا صح !!
صرخة حسن شحاتة الشهيرة حين أحرز عمرو زكي هدفًا غاليًا منذ 13 عامًا ..
كنت غرًا ساذجًا حينها .. فشعرت أن رد فعله مبالغ فيه .. ومن الأفضل لو اكتفى بابتسامة واثقة .. تدل على أحقيته بمنصبه .. وتخرس أي مشكك في قدراته ...
لكني تفهمت موقفه .. حين تعاملت مع البشر ووجدت أن ما هو واضح وصحيح بالنسبة لي .. يشككون هم فيه بلا توقف !!
وأصل الحكاية أن الكثيرين يلومونني على نصيحتي المعتادة في كل المقالات .. ألا وهي اعتزال البشر .. وتخفيف الاختلاط بهم بأقصى قدر ممكن ..
وأصبح معتادًا أن أسمع كلامًا على غرار "جنة من غير ناس ما تنداس" و "انت مريت بتجارب ماستحملتهاش .. غيرك ممكن يستحملها" و "انت ضعيف للأسف .. أنا غيرك" ..
لكني في الواقع انتبهت لأمر غريب ..
انتبهت أن الجميع على الفيسبوك يكتبون عن صدمات حياتهم .. الجميع صدم في أشخاص .. الجميع تعرض لنهايات سيئة لعلاقاته .. الجميع يشعر أن لا أحد يفهمه ..
إذن فالجميع يرى رأيي !!
حتى أشد الناس اجتماعية .. الذين لا يكفون عن الابتسام في وجه الجميع .. ولهم أصدقاء يفوق عددهم جيش كورتيز نفسه !
إذا ما اقتربت منهم ستجدون يبكون هجر الحبيب وغدر الصحاب مثلي تمامًا !!
إذن ما المشكلة ؟
لماذا لا يبتعد الجميع عن الجميع ليرتاح الجميع ؟
القصة أن العرف المجتمعي والعادات والتقاليد حتمت أن يكون الشخص اجتماعيًا وإلا ظنوا بعقله الظنون !
ستجد حولك حتمًا شخصًا يفضل البقاء وحيدًا .. لكن الجميع يتعامل معه كمريض نفسي .. أو كشخص بارد مغرور .. أو حتى أنه خجول ضعيف الشخصية .. ويتغامزون عليه كلما ظهر..
حتى في مقابلات العمل يفضلون الشخص المتكلم الاجتماعي .. أما المنطوي فـ"هادي زيادة عن اللزوم مش هينفع" !
لذا أصبح محتمًا في المجتمع أن يكون الشخص اجتماعياً متعدد العلاقات .. وإلا فليذهب إلى الجحيم !!
بل وتحول الانطوائي إلى شخص فاشل عاجز لا يجيد التعامل مع الحياة !
والنتيجة أننا تحولنا إلى مجموعة من المجانين .. كل منهم يتمنى البعد عن البشر لكنه لا يجسر على هذا !!
السؤال هنا هو لماذا ؟
لماذا نفعل هذا في بعضنا البعض ؟
لماذا يجب أن أقضي يومي في تعاملات اجتماعية لا أحبها .. وواجبات نحو آخرين لا أريد التعامل معهم .. بل وهم أيضًا لا يريدون هذا !!
لماذا أصبح واجبًا أن أقترب من النار وأمسكها .. وأعجز حتى عن الشكوى من ألم الاحتراق حتى لا يتهمني الناس بضعف الشخصية والغرور ؟!
قد تقول أنك تعرف أناسًا تحبهم ويحبونك .. وترتاحون معًا .. أضحكتني !!
هل تعاملت معهم في مصلحة ما ؟ تشاركتم في مشروع ؟ اختلفتم في أمر محوري بينكم ؟ لا ؟
إذن حين تمر بكل هذا معهم حدثني عن الحب والراحة والعلاقة الأفلاطونية الجميلة بينكم !!
حتى الدين أمرك بمعاملة الجميع بالحسنى .. والابتسام في وجوههم .. ووضع قواعد واضحة للتعامل مع البشر من زواج وطلاق وسواهما .. لماذا في رأيك ؟
لأن الإنسان ولد وحيدًا .. وجبل على كونه متفردًا لا يمكن أن ترتاح نفسيته مع أشخاص آخرين مهما كانوا قريبين منه .. فقط التعامل بحدود معينة تضمن عدم الوصول للخلاف ..
حتى الزواج .. ستكون مع إنسان وجهًا لوجه بقية عمريكما ...
لكنك إذا تجردت تمامًا مع شريك حياتك .. وصارحته بكل ما بداخلك على طريقة "أصل أنا متفق مع سعاد مانخبيش على بعض حاجة أبدًا" ... فسينتهي الزواج بالانفصال لا محالة !!
إذن فالقاعدة هنا هي الوحدة .. والتعامل مع الجميع بالابتسامة والكلمة الطيبة .. وعدم مشاركة كل شيء مع أي أحد ...
امزح واضحك وساعد الناس .. لكن احتفظ دائمًا بوحدتك في مكان أمين ...
أذكر في الماضي أني كنت أطبق هذا الكلام حرفيًا ..
لي أصدقاء كثر .. لكني ظللت متفردًا .. أتبنى آرائي الخاصة فقط .. والحياة حولي واضحة تمامًا .. أرى الأبيض أبيضًا والأسود أسود .. دون الرجوع لرأي أي شخص ..
لكن لأسباب مختلفة اضطررت للتحول إلى حيوان اجتماعي أهتم برأي الناس ونظرتهم لي .. أكتم الأفكار التي قد تنفر الناس .. أذوب وسط المجتمع لأصبح واحدًا من القطيع .. ويالهول ما رأيت !!
ضعفت ثقتي بنفسي وبأفكاري .. ومع زيادة التفاعل مع الناس بدأ اللون الرمادي بالظهور .. فما تراه سيئاً قد يراه غيرك رائعًا ..
لا مشكلة في اختلاف الأذواق .. لكن تفاعلك الزائد مع البشر قد يغير ذوقك ومفاهيمك للأبد !!
أذكر في فترة أقمنا مسابقة للكتابة .. وبدأ المشاركون في إرسال أعمالهم ..
معظم الأعمال كانت سيئة بشكل لا يوصف .. وكنت مضطرًا لتقييم الجميع لاختيار الفائزين ..
أصبت بالذعر حين وجدت مفهومي عن العمل الأدبي الجيد بدأ يتشوش من كثرة الأعمال السيئة !!
هرعت إلى أعمال أحمد خالد توفيق وتوفيق الحكيم وتشيكوف لأستعيد ذاكرتي من جديد !!
حاول أن تتفاعل لفترة مع مجموعة من حبي توفيق عكاشة .. أو السلفيين المتشددين ..
مهما كنت قويًا ستتبلبل أفكارك ... وسيجد كلامهم الطريق إلى عقلك طالما كان اختلاطك بهم كاملًا !
سيصيبك الشك في كل أفكارك ومفاهيمك .. هل أنا أفكر بهذه الطريقة لأن هذا تفكيري ؟ أم هو مجرد نتاج التفاعل مع البشر المحيطين بي ؟
هل هذه شخصيتي فعلًا ؟ أم أنها مجرد لعبة "بازل" كل قطعة مكونة من مجموعة بشر تفاعلت معها ؟
الأغاني التي أفضلها .. هل أحبها فعلًا ؟ أم أنه تأثير المجموعة المحيطة بي ؟
لتفهم قصدي عليك مشاهدة فيلم "البرتقالة الميكانيكية" .. الفتى المجرم الذي أجبروه على مشاهدة مقاطع فيديو مدروسة طوال اليوم .. حتى تحول إلى شخص جبان مسالم أكثر من اللازم !
ليس الأمر بسوداوية الفيلم طبعًا .. لكنه سيء بما يكفي ..وكفيل بمسخ شخصيتك حتى تعجز عن التفرقة بين ما تحبه فعلا .. وما يريدك المجتمع أن تحبه حتى يتقبلك بين أفراده !!
ابق وحيدًا .. كون آراءك وحدك .. لا تختلط بالبشر .. الجحيم هو البشر الآخرون .. اهرب منهم هروبك من أسد مجنون يطاردك ...
لا تسمح لهم بتحويلك إلى برتقالة ميكانيكية تتشكل حسب أهواءهم !!
اسمع نصيحتي .. أو ببساطة سأعود بظهري للوراء .. وأشاهد سقوطك .. وأضحك ..

