عن القلم والبلاعة
يقول الراحل "أحمد خالد توفيق" أن المشكلة أن هناك من قال إن الورود للموتى والذي في المقدمة يُضرب بالحجارة .. بهذا لا يعتقد الرديء أبدًا انه رديء .. إنهم يهاجمونني لأنهم حاقدون ..
أو بالبلدي "الأشجار المثمرة يحدفها العيال بالطوب" ..
تنطبق هذه المقولة على كل مجال عمل تقريبًا ... لكني أردت أن أخصصها لمجال واحد ....
أتمنى أن تكون قد استنتجته من العنوان ... قلم .. وبلاعة ... عنوان موحٍ فعلًا ..
إذا لم تكن قد فعلت فأنت من الأحرار الذين لن يتوقفوا عن القراءة لأنهم عرفوا موضوعه من السطر الثالث ... ولن تنام سعيدًا لأن الكاتب الأحمق فشل في تشويقك ودفعك لمتابعة القراءة ...
لازلت هنا ولم تمل بعد ؟ رائع ... أنت أسطورة يا بني في عالم أصبح يعتبر بوستًا على الفيسبوك مكوناً من 50 كلمة مقالاً طويلاً مملًا ..
هذا هو الموضوع ...
فحتى وقت قريب كانت مصطلحات "كاتب أو "روائي" أو "أديب" لها هيبة .. وتشعر أن صاحبها شخص ديناصوري أسطوري كلما دخل مكانًا لا بد أن يظلم وتنطلق موسيقى أندرتيكر ...
أما الآن أصبح كل أبله له عدد كبير من المتابعين على الفيسبوك ينشر كتابًا ... فجأة أصبح معرض الكتاب يضج كل عام بآلاف الكتب الجديدة ... ومعظمها حمضان بعنف ... لدرجة أني بعدما قرأتها استخدمت أوراقها تحت البطاطس المقلية لأستفيد بأي شكل مما دفعته فيها !!!
ربما تتهمني بالغرور .. وتقول أنه طالما وافقت دار النشر على نشر كتاب لأحدهم .. فقد درسوا الأمر حتماً وتأكدوا من موهبته ... لذا أفسح صدرك لأحكي لك خبراتي مع دور النشر المصرية ....
مازلت هنا ولم تشعر بالملل ؟ أنت إذن إما عنيد جدًا أو أحمق بلا حدود ....
المهم ... تنقسم دور النشر إلى قسمين ... الأول بالفعل لديه بالفعل لجنة قراءة .. ولا ينشر أي كتاب إلا بعد دراسة مدققة .... وهذه الدور قليلة فعلًا ونادرًا ما توافق على نشر كتاب لكاتب مجهول ....
أما القسم الثاني الذي يشكل الغالبية العظمى ... فهي تتقاضى مبلغًا كبيرا من الكاتب لتنشر له ... نعم هو كما قرأت ... الكاتب يدفع مبلغاً محترمًا لينشر كتابه .. ليكن مثلًا 10 آلاف جنيه ... تأخذ الدار المال .. وتطبع له 200 نسخة في أحقر المطابع .. تبلغ تكلفتها 2000 جنيه فقط لا غير .... يعطي الكاتب 50 نسخة منها يوزعها على أقاربه وأصدقائه ... وتلقي البقية في بعض المكتبات الصغيرة .... دون أن تدفع مليمًا لتسويقه !!!
أي أن أرباح دار النشر مصدرها هو الكاتب نفسه .. وبعدها فليذهب الكتاب إلى الجحيم حتى لو لم يبع نسخة واحدة !!!
هل صدمتك ؟
تتساءل عن المكتبات الكبيرة ؟ تقول أنهم حتماً يكسبون من بيع الكتب ؟
دعني أحكي لك قصة صغيرة ..
تواصلت معنا في فترة سيدة شابة مهذبة ..قامت بافتتاح دار للنشر .. وقررت أن تكون دارًا محترمة .. لها لجنة قراءة تحدد مستوى الكاتب قبل الموافقة على نشر كتابه .. ولا تأخذ مليمًا من الكاتب ... بل وستعطيه نسبة من أرباح البيع ..
كانت تقول أن دار النشر لها منتج واحد هو الكتاب .. لذا يجب أن يكون بيع الكتب هو مصدر الربح الوحيد .. وليس جيب الكاتب .. !!
كلام محترم كما ترى ..
هكذا نشرت الدار مجموعة كتب لأدباء شباب .. وبعض الروايات المترجمة بالغة القدم من الأدب العالمي .. وتواصلت مع المكتبات الكبيرة لتعرض كتبها لديهم ..
وبدأت المهزلة ..
اتضح أن بيع الكتب في مصر محض كذبة .. والربح منه شبه مستحيل ..
كما أن المكتبات الكبيرة حين طلبت السيدة أن يوردوا إليها نصيبها من بيع الكتب .. ظلوا يماطلونها مدة طويلة .. ثم قالوا ببرود : "انتي بتدوري على فلوس البيع ليه ؟ ما انتي خدتي فلوس كتير من الكاتب" !!
وطبعًا لم تحصل على مليم واحد !!
وأغلقت دار النشر بعد فترة .. بعد خسارتها لمبلغ مرعب !!!
هل فهمت ما حدث ؟
أولًا لا يوجد شيء اسمه "سوق الكتب" .. لا أحد يشتري تقريبًا ..
المكتبات الكبيرة ؟ قد تكون غسيل أموال .. أو مجرد أماكن أنيقة لاستقبال الندوات الحمضانة .. أو كافيهات بها بعض الكتب لا أكثر !!
قائمة "الأكثر مبيعًا" التي يصدعوننا بها قد تكون كتبًا باعت عشر نسخ فحسب !!
تحولت الكتابة إلى شخص يدفع مالًا لينشر كتابًا .. ثم يبدأ الزياط على الفيسبوك .. يا شباب أنا قد أصبحت كاتبًا .. !
يدخل أصدقاؤه الذين لم يقرأوا كتابًا في حياتهم ليهنئوه .. ويبشرونه أنه سيفوز بجائزة نوبل يومًا ما .. وأنه سيغير وجه الكتابة للأبد ..
ثم يدعو لحفل توقيع فخيم .. يحضره نفس الأصدقاء .. بالإضافة لأدباء آخرين مثله .. يتبعون مبدأ "نقطة الفرح" .. هم يحضرون حفله .. ثم يردها هو لهم بحضور حفلاتهم .. جمعية ودايرة !
أين القراءة الحقيقية ؟ أين تقييم مستوى الكتابة ؟ كل هذا تاه وسط الزحام !!
مازلت تقرأ ؟ ما أروعك !!
قد يقول قائل أن الموهبة الحقيقية ستظهر حتمًا .. ولن تحتاج الزياط لتصل للقراء ..
للأسف لم يعد هذا واردًا ..
كما قلت لك .. لم تعد دور النشر تقوم بتسويق الكتب .. وأصبح الاعتماد كاملًا على الكاتب نفسه أن يسوق لنفسه على النت !
لذا إن لم تكن ممن يحصدون آلاف اللايكات على الفيسبوك فأنت هالك لا محالة !!
للأسف أصبح هذا هو الوضع في بلادنا العزيزة .. ولعلك تراه في مجالات عديدة غير الكتابة ..
كم شخصًا تعرفه كان يجيد عمله ويتفوق فيه لكنه لا يجيد الزياط والشو ؟ وفي النهاية لا يحصل على أي تقدير .. ويذهب الثناء كله إلى شخص لا يعمل تقريبًا .. لكنه طوال الوقت يبدو مشغولًا منهمكًا كأنه رئيس وزراء نشط .. كما يعرف مفاتيح مديره جيدًا ..
اختبارات كرة القدم في الأندية تعتمد على الواسطة .. أعرف كثيرين ذهبوا للاختبار .. ليفاجئوا أنهم يختبرون 50 فتى في نفس الوقت .. عن طريق إعطائهم الكرة و "يلا العبوا" .. وبعد عشر دقائق لا ينظر المختبر لهم فيها أصلًا ينتهي الاختبار !!
أحد أقاربي جاء من الصعيد خصيصًا ليختبر في أحد الأندية .. يقسم لي أن الكرة لم تصل إليه ولم يلمسها مرة واحدة !!
أن تحصل على وظيفة لم يعد متعلقًا بمهاراتك .. بل بمدى توسع علاقاتك !!
أصبحت مقولة "من جد وجد" و "لن يصح إلا الصحيح" محض تفاهات لا تجد من يصدقها ..
أصبحنا محاطين بالزيف .. المنتج الأكثر انتشارًا لم يعد المنتج الأفضل ..
أصحاب المناصب لم يعودوا الأفضل .. بل الأكثر علاقات .. بداية من رئيس اتحاد الطلبة وحتى رئيس الـ... إحم !!
ما علينا ...
طالما وصلت إلى هنا في قراءتك فأنت شخص مميز حقًا .. وسأعطيك نصيحة ذهبية للنجاح في أي مجال ..
كن زياطًا .. منافقًا .. مداهنًا .. وكون علاقات بأي ثمن .. حتى لو على حساب كرامتك .. أو ببساطة ابحث عن ركن تموت فيه ..

No comments:
Post a Comment