الكابوس
في حلمي ..
يغني الأطفال أغنية حب لكل ولد وبنت ..
السماء زرقاء .. الحقول خضراء ..
والضحكة هي لغة العالم الموحدة ..
***
المكان : أرض واسعة جوار قرية "بوانا" – مدينة زومبا – دولة مالاوي
الزمان : أول أيام عيد الأضحى
***
رائحة الدماء اللعينة !!
كنا نشارك جميعًا في ذبح وتوزيع الأضاحي في ذلك الجانب المظلم من العالم ..
كنت مديرًا للمشروعات الإنشائية هناك في تلك المؤسسة الخيرية التنموية .. لكن ضخامة عمل الأضاحي وكثرة المتبرعين هذا العام دفعنا جميعًا لنسيان تخصصاتنا والنزول للمشاركة ..
اخترنا قطعة أرض فسيحة وأحطناها بسور خشبي لنبدأ تخزين قطعان الماعز والأبقار المطلوبة .. وقمنا بتقسيمها لساحات ذبح وساحات تنظيف وتعبئة لحوم وساحات تحميل السيارات لتبدأ التوزيع ..
يحيط بالسور سكان القرى المجاورة البسطاء .. يشاهدون بأعين خرساء جبال اللحوم التي يستحيل أن يروها في أي مكان .. كنت أرى الفقر المدقع تحت كل حجر في هذه البلاد ..
ويتصايح الأطفال السود "آلويا .. آلويا" كعادتهم كلما رأونا .. سألت عن معنى هذه الـ"آلويا" فأخبروني أنها تعني (المحاربون) ..
في ذلك الوقت كنت أتعامل مع سفري كمغامرة لطيفة .. كيف لا والمناظر الطبيعية تحوطنا من كل جانب ؟ ونعيش في مقر فسيح تحيط به حديقة غناء !
المكان كخلية نحل ..
الجزارون يحملون السكاكين .. وبدأت أكوام اللحم تزداد .. وقرب السور تعلو كومة من القاذورات ونواتج تنظيف اللحوم ..
وأنا وزملائي نشارك في الذبح و نصور لكل ذبيحة مقطعًا قصيرًا ليرسل لمن تبرع بثمنها ..
تواصل الشمس رحلتها في السماء .. وغرقنا في مزيج رهيب من العرق والدماء ..
لك أن تتخيل أن عدد الذبائح تجاوز الألف وخمسمائة !
وقفت للحظات لألتقط أنفاسي قبل أن نبدأ ركوب السيارات للذهاب في رحلة التوزيع المرهقة ..
وقف صديقي "شادي" بجواري .. يتأمل الجبال المكسوة بالخضرة من حولنا ..
ظروفنا وسننا متقاربان .. محاسب هو .. جاء مثلي إلى أقاصي البلاد بحثًا عن رزقه ..
تبادلنا أطراف الحديث .. وشعور بالرضا والإنجاز يداعب حواسنا ..
حين سمعت فجأة أصوات صراخ وشجاراً بلغة "شيشيوا" المحلية .. يتصاعد من ساحة تنظيف وتعبئة اللحم .. فنظرنا نحوها .. لأجد المشهد الذي سيزور كوابيسي لأعوام عديدة تالية ..
***
ثم استيقظت وكل ما رأيت ..
هو عالم مليء بالمحتاجين ..
قل لي لماذا ؟
هل علينا أن نكون هكذا ؟
ما الذي فاتني ؟
فأنا لا أفهم ..
لماذا يحتاج الكثيرون المساعدة .. ولا أحد يقدمها لهم !
***
شادي !! هل ترى ما أراه !! القرويون يتشاجرون !!
يتشاجرون حول كومة نواتج تنظيف اللحم !!
يدوسون بعضهم على أمل الحصول على نصيب منها !!
شادي إنها ليست حتى أمعاء ولا حتى ما يسمونها "حلويات الذبيحة" فحتى هذه يتم توزيعها.. إنها قاذورات !
إنهم يتشاجرون للحصول على زبالة .. زبالة يا شادي !!
مجرد جلد وأوساخ وعصارة خضراء من ناتج هضم آخر وجبة للبهائم !!
حاولت أن أرفع الهاتف لأصور المشهد .. لكني عجزت ..
هل هي القيامة ؟ هل قامت الساعة ؟
كيف لم تحرقنا صاعقة حتى الآن ؟
رجل عجوز جرح رأسه في المعركة .. لكنه يتجاهل الدماء .. وينقض على قطعة قذرة من الجلد .. يرفعها ويصرخ صرخة الانتصار .. لكن امرأة تنقض عليه وتخطفها من يده وتهرب .. !
يتردد في أذني صوت "ديكلان جلبرايث" .. قل لي لماذا ؟
***
أتسائل كل يوم .. ماذا أفعل لأصبح رجلًا ؟
هل يجب أن أقف وأقاتل ليرى الجميع من أنا ؟
هل هذا هدف حياتي ؟
أن أضيعها في عالم مليء بالصراعات ؟
قل لي لماذا ؟
هل علينا أن نكون هكذا ؟
ما الذي فاتني ؟
***
نحن هالكون ..
نحن في عالم ملعون ..
أي عالم هذا ؟
أي عالم هذا الذي يرفل فيه أناس في النعيم .. ويتشاجر آخرون حول من سيأكل قاذورات أكثر ؟
لماذا يتركهم الله ؟
قالوا أن الله عادل ..
من يواجه الظلم في بلادي يؤكد أن الله عادل وسيأتيه حقه ..
فهل يترك الله هؤلاء الجياع ويعوضك أنت عن وظيفتك أو عن خطيبتك التي تركتك ؟
نظرت إلى السماء ..
يا الله .. أنت غاضب !!
إذا غضبت على قرية أمرت مترفيها أن يفسدوها ويفسقوا في الأرض !!
لماذا تذكرت الآن مقولة "العالم أصبح قرية صغيرة" ؟
الله غاضب ... جميعنا سنعاقب ..
العالم الذي يحوي هذا المشهد لا يستحق ذرة من الرحمة !!
طفل صغير سقط وسط المعركة .. ورأيت بأم عيني رجلًا يدهسه بقدمه الضخمة ليخطف قطعة قذارة أخرى ..
***
قل لي لماذا ؟
هل علينا أن نكون هكذا ؟
ما الذي فاتني ؟
فأنا لا أفهم ..
لماذا يحتاج الكثيرون المساعدة .. ولا أحد يقدمها لهم !
***
لا قيمة لأي شيء ..
أي خطة أو طموح أو أحلام لا تشتمل على مساعدة هؤلاء هي ببساطة لا تساوي شيئًا !!
ماذا أفعل هنا ؟
من أخدع ؟
أنا هنا من أجل المال ..
أنا أتاجر بمعاناتهم لأحصل على راتبي لأعود لخطيبتي وأشتري جرامات عديدة من الذهب وشقة مناسبة للزواج !!
أي تفاهة هذه ؟
البحث عن وظيفة والزواج والأولاد ؟ هل هذه أحلامك ؟
هل تجرؤ أن تطلب من الله هذه التفاهات وهناك من يموتون جوعًا ؟
ما هذا العالم ؟
كيف يعلم الجميع أن هناك من يعيشون بهذا الفقر .. ويتابعون حياتهم وأحلامهم التافهة ببساطة ؟
أنا أرفضه .. لا أريده !!
كيف أعيش وأنا أعرف أن هناك من كادوا يقتلون بعضهم ليأكلوا قاذورات قد أتقيأ إذا أمسكتها بيدي !!
بدأت أصرخ بالعربية ..
توقفوا !! توقفوا !!
سنوزع عليكم لحومًا حقيقية بعد قليل !!
لا تفعلوا هذا بالله عليكم !!
لا تفعلوا هذا بي !!
علا صوتي تزامنا مع صراخ (ديكلان) في ذهني ..
لكنهم حتى لم يسمعوني ..
امرأة محجبة سقط حجابها ..
لم تهتم .. انقضت على البقية محاولة انتزاع قطعة أخرى من القاذورات ..
***
لماذا ؟ لماذا لا نتعلم أبدًا؟
لماذا نتظاهر أننا نهتم ؟
لماذا فقط نقف ونحدق ؟
ألسنا جميعاً متماثلين ؟
لماذا إذن نلقي اللوم على الآخرين ؟
***
انتهت المعركة .. واختفت كومة القاذورات .. وعاد كل واحد إلى بيته حاملًا غنيمته ..
شعور بالعجز سيطر علي ..
أن تعلم بوجود الفقر أمر .. وأن تراه بعينيك أمر آخر ..
كراهية عارمة للعالم أجمع .. وصبغة سوداء سالت لتلون كل الموجودات من حولي ..
عجزت حتى عن مسح دمعة شاردة سالت على خدي ..
استدرت ورحلت ... عالمًا أني تغيرت منذ هذه اللحظة .. وإلى الأبد ...
***
فقط أخبرني لماذا ؟ لماذا ؟
لماذا لا ينتهي كل هذا ؟
لما لا نكون أصدقاء فحسب ؟
***
أغنية tell me why المذكورة في المقال
No comments:
Post a Comment