Friday, January 15, 2021

رسالة إلى ابني الذي لن يأتي..


رسالة إلى ابني الذي لن يأتي.. 


ابني العزيز .. 

هناك رسائل شهيرة .. رسالة بيتهوفن إلى حبيبته المجهولة في مطلع القرن التاسع عشر .. رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة .. رسائل كافكا ومالينا .. بل إن هناك مسلسلًا رسوم متحركة شهيرًا يقوم بالكامل على رسائل اليتيمة "جودي آبوت" إلى المتبرع المجهول الذي رعاها طوال حياتها دون أن تعرف اسمه .. ودون حتى أن ترى منه إلا ظله الطويل وهو يمشي مبتعدًا .. لتخرج لنا رائعتها "رسائل إلى صاحب الظل الطويل" .. 

حسن .. لست هنا بصدد كتابة روائع كهذه .. وللأسف لن يخلد التاريخ رسالتي لك .. لعل أحدًا لن يقرأها أصلًا .. لكني أجد نفسي مجبرًا وأنا على أعتاب الثلاثينات أن أبرر موقفي .. وأشرح لك لماذا لم أنجبك .. ولماذا لن تأتي إلى الدنيا .. 

لقد أساء العالم لوالدك كثيرًا يا بني .. وعجزت تمامًا عن فهمه .. وتوقفت حتى عن محاولة هذا .. 

لم أفهم .. هل الأخلاق والمبادئ هي الحل ؟ 

لا .. فالسواد والهباب يسيطران على كل ركن فيه .. وإذا تعاملت بالأخلاق فقط قد تعجز عن كسب لقمة عيشك .. وتعيش حياة قاسية .. 

قد أربيك مثلًا على "الجدعنة" والرجولة والوقوف مع المحتاج .. لكني سأعجز عن تفسير تخلي الجميع عنك حين تحتاجهم .. لن تفهم لماذا حدث هذا ؟ 

هل أربيك على البراجماتية ؟ وأن ترفع شعار مصلحتك أولًا ؟ 

أغرس فيك مبدأ "عم عشم مات من النهاردة خد وهات" ؟ 

وما فائدة أن أربي للعالم وحشًا آخر يدوس بقدمه على كل من يعترض مصالحه ؟ 

هي دنيا قبيحة يا بني .. تتكون من 99% من الألم .. و 1% من السعادة .. 

كيف ألقيك في أتونها لتحترق ؟ لن يطاوعني قلبي .. 

كيف أفسر لك الخازوق المتين الذي ستعطيه لك حبيبتك الأولى ؟ 

كيف أشرح لك أنها ستتركك لأنك مازال أمامك أعوام من تكوين نفسك لتستعد للزواج ؟ ولعنة الفقر تلازم والدك .. ولن يتحول إلى عبد الغفور البرعي فجأة .. لأن الحياة ليست كالمسلسلات العربي للأسف .. 

والدك تعرض لهذا الموقف .. وشعر بذلك الألم القميء في قلبه .. وتجاوزه بصعوبة .. 

كيف سأنصحك بأن تتخلى عن مجال تحبه .. عن موهبة تجيدها .. لأنها في الأغلب بلا مستقبل .. وأجبرك على التحول إلى شخص عادي .. يعمل في مهنة لا يحبها لكن سوق العمل أجبره عليها ؟ 

لا أعرف ما سيحدث في المستقبل .. لكن الزمن لا يزيد الأوضاع إلا سوءًا .. وفي الأغلب ستخرج إلى الدنيا لتجد عالمًا شبيهًا بعالم فيلم "Wall-E" .. عالم دمره التلوث .. وتحول البشر إلى كائنات سمينة لزجة عديمة التفكير .. لا يشغلهم إلا الطعام والتكنولوجيا الحديثة التي توفر عليهم الحركة .. 

والأسوأ أن الإسفاف أصبح هو المسيطر الآن .. 

لن أستطيع حمايتك من التلوث الفكري الذي أصبح يفعم كل شيء .. بداية من بوستات الفيس بوك وفيديوهات اليوتيوب .. وحتى الحروب السياسية والعلاقات بين الدول .. 

تظن أن الصورة سوداء ؟ تقول أن الخير يظل موجودًا ؟ 

نعم .. ربما .. 

لكن الخير أشبه بالذهب .. لامع نفيس .. ونادر جدًا .. 

أما الإسفاف والابتذال والشر فهم أشبه بالتراب .. والتراب دائمًا أضعاف الذهب .. ويغطيه بنجاح تام .. 

ربما لو أنجبتك لقرأت معك رواية "الاسم : شكسبير" .. التي كتبها العبقري أحمد خالد توفيق .. ووضح بنجاح كيف يقضي الابتذال على كل ما هو جميل .. وبمنتهى السهولة .. 

قارن الماضي بالحاضر في أي شيء .. 

المباني .. السيارات .. الأثاث .. 

ستجد الماضي دائمًا أنيقًا .. مزخرفًا .. مصنوعًا بإتقان وحب .. 

أما الحاضر فستجد الكم دائمًا يتغلب على الكيف .. 

الضخامة والفخامة الخادعة .. والإنتاج السريع بأعداد ضخمة .. 

السرعة المحمومة لكسب أكبر أرباح ممكنة .. لا أحد يملك البال الرائق لإخراج منتج أنيق يضاف إلى جماليات الحضارة .. 

أصبحنا عالمًا كاملًا من المقاولين البلدي .. المعلم حلاوة الذي يسعى لإنهاء العمارة ليبني التالية بعد شهر واحد .. ولتذهب كل قيم الجمال إلى الجحيم .. 

حفلات الزفاف الدافئة التي كانت تقام على أسطح البيوت .. ويغمر الحب والصدق المكان حتى ليغرق المنطقة .. تحولت إلى قاعات باردة تحاول أن تبدو فخمة .. ومنظمون ومطربون لا يهمهم الزفاف في شيء .. بل يهمهم ما سيدفعه العريس .. 

تعليم فاشل ومدارس تدخلها جاهلًا لتخرج منها أكثر جهلًا .. لكنها تبدو فخمة وتعطيك شهادة أنيقة باللغة الإنجليزية .. 

وظائف عبيطة .. تتظاهر أنها مهمة .. وتتظاهر أنت أنك تعمل .. ويتظاهرون أنهم يعطونك راتبًا .. لكنك لا تنتج شيئًا ولا تفيد البشرية بمقدار شعرة .. 

سامحني يا بني .. أنا لن أتحمل أن أرمي بك وسط كل هذا .. 

قد تقول أن البشر يتزوجون وينجبون .. 

قد تقول أن نظرتي سوداوية كئيبة .. 

لا أملك إجابة بصراحة .. 

قد أكون أذكى أو أغبى منهم .. لا أعرف في الحقيقة .. 

ما أعرفه أني لا أرى أي ضوء في نهاية النفق .. ولا أمل عندي في انصلاح الأحوال .. 

أشعر أني سأظلمك .. فقط لأرضي شهوتي بالزواج وتكوين أسرة ! 

لا تغضب مني .. أنا لن أكون أبًا جيدًا .. 

أنا يا بني فاقد الهمة .. فاقد الأمل .. فاقد الرغبة في الحياة .. 

تحولت الحياة بالنسبة لي إلى أيام أنتظر انتهاءها بلهفة .. 

ولم أقتنع بنصيحة الآخرين أن تفكيري سيتغير حين أتزوج .. 

ماذا لو لم يحدث ؟ ما هو مصيرك ؟ 

أنا لست أنانيًا .. ولن أنجبك لتتعذب في الدنيا فقط لأكون أنا سعيدًا .. وأقنع نفسي أني رائع ! 

لن أنجبك استجابة لضغوط المحيطين بي .. الذين ربطوا السعادة والاستقرار بالزواج والإنجاب !! 

سامحني يا بني .. 

سامحني لأنك لن تأتي .. 

ربما تدرك فيما بعد أن هذه أفضل هدية من والدك .. 


Friday, January 8, 2021

عن التنمية البشرية ومانشستر يونايتد وأشياء أخرى ..


عن التنمية البشرية ومانشستر يونايتد وأشياء أخرى .. 


هل قلت لك من قبل أني كنت ناشطًا في المجال ثقافي ؟ وكان لي باع طويل في تنظيم الندوات والإيفنتات الثقافية و .. 

أعتقد أني ذكرت الأمر مرة أو اثنين في مقالات سابقة .. نعم .. 

ماذا ؟ لم تقرأ مقالًا لي من قبل أصلًا ؟ لا بأس .. أقول لك أني كنت ناشطًا في المجال ثقافي . وكان لي باع طويل في تنظيم الندوات والإيفنتات الثقافية ! 

لن تحتاج معلومات أكثر .. 

وأصل الحكاية أنه في أحد تلك الأيام راسلتنا إحدى مدربات التنمية البشرية .. طالبة منا أن ننظم ندوة لها .. وأرفقت سيرتها الذاتية .. 

وأنا قد أكون معتوهًا .. لكني لست ساذجًا .. فلم أنخدع بكم الكورسات والدورات التي حصلت عليها الأخت المذكورة .. من نوعية T.O.T أو "تدريب المدربين" كما يعرف خبراء التنمية البشرية المحنكون .. 

أوشكت على الرفض .. لكن شركائي تحمسوا لها جدًا .. وأقنعوني بالموافقة بطريقة ما .. 

نظمنا الحدث كما اعتدنا .. وفاجئتنا الأخت المدربة صباح يوم الندوة أنها ستحتاج إلى "لاب توب" أثناء المحاضرة .. 

قمنا بعدة مغامرات دامية لندبر لها واحدًا في الوقت المناسب .. 

المهم أنني توجهت إلى المكان .. وفوجئت بالأعداد الغفيرة الحاضرة ! 

ونظرت لي إحدى الزميلات نظرة تقول (ألم – أقل – لك؟) .. فرددت عليها بنظرة من طراز (لم ـ أعد ـ أنخدع – بالمظاهر – لنرى – ما – سيحدث) .. "تحية للعراب أحمد خالد توفيق رائد لغة النظرات" .. 

بدأت المحاضرة العظيمة بأن طلبت المدربة من كل شخص من الحاضرين أن يكتب حلمه في ورقة .. ويطويها ويعطيها لها .. 

وبعد نهاية هذا السخف .. جمعت الأوراق .. وبدأت تقرأ و يرد الحضور عليها : 

-"أحمد يحلم أن يجيد الإنجليزية بطلاقة .. بم ننصحه؟" 

-"فليأخذ كورسات !" 

-"سعاد تتمنى أن تتحول إلى شخصية اجتماعية .. بم ننصحها ؟" 

-"فلتأخذ كورسات !" 

-"عبد العزيز يحلم أن يطير ويخرج النار من مؤخرته .. بم ننصحه؟" 

-"فليأخذ كورسات !" 

إلخ .. إلخ .. 

لاحظ أن عدد الحاضرين كان كبيرًا .. ويمكنني أن أكمل بقية المقال بأحلامهم على سبيل تعذيبك كما تعذبت يومها .. لكني سأختصر هنا رأفة بأعصابك .. 

الخلاصة أنه يبدو أن هناك كورسات لكل شيء هذه الأيام .. ! 

وما رأي المدربة في هذا ؟ المضحك أنها حين قاربت على الانتهاء من قراءة الأحلام .. اقترحت عليها أن نتوقف باستراحة قصيرة .. فقالت لي بثقة : "لا أنا تقريبًا خلصت خلاص" .. 

ساعتان يا مؤمن .. ساعتان ضاعا هدرًا من حياتي سمعت فيها أحلام الآخرين .. والنصيحة الواحدة لهم جميعًا .. خد كورسات .. ثم انتهت المحاضرة !! 

طبعًا كنت مستعدًا للهروب بعدها .. لأني توقعت أن يغضب الحاضرون من هذه المحاضرة العبيطة .. وربما يبطحني أحدهم بمقعد أو طاولة ! 

لكني فوجئت بتصفيق حاد .. وطلبوا بحماس أن نكرر مثل هذه الندوات المفيدة .. وأصر أحدهم أن يدعوني على كوب قهوة في مقهى قريب !! 

ضربت كفًا بكف .. هل جن الجميع ؟ 

بعد أعوام من هذا اليوم العجيب .. انتبهت أن ثقافة الكورسات تغلغلت فعلًا في كل شيء .. 

يتخرج الطالب من كليته ليغرق نفسه في كورسات بالشيء الفلاني .. على أمل أن يظفر بوظيفة لائقة .. 

أنا لست حماراً .. أعرف جيدًا أن هناك كورسات مفيدة .. وتؤهلك حقًا لسوق العمل وقد تطور شخصيتك أيضًا .. 

لكني أؤمن أن الكورسات هي وسيلة مساعدة فحسب .. وليست هي الأساس ! 

فجمع الكورسات يشبه الأحمق الذي اشترى شورتًا وفانلة وكوتشي أديداس .. وجلس في مكانه ينتظر عرضًا من مانشستر يونايتد ليلعب فيه !! 

فقل لي بالله عليك .. ما الفائدة التي عادت على الحاضرين من محاضرة التنمية البشرية تلك ؟ ولا حاجة ! 

لكنهم جميعًا سيعودون إلى منازلهم شاعرين بالرضا وأنهم قضوا يومهم في نشاط مفيد !! 

حتى في مجال العمل .. حضرت يومًا كورسًا غالي الثمن في أحد المراكز .. المفترض أن أتعلم فيه عدة برامج هندسية .. 

كان المحاضر يعلمنا شيئًا في البرنامج .. ويطلب منا تجربته .. ثم يختفي خمس دقائق .. ويعود مرة أخرى .. 

عرفنا بعدها أنه يلعب "البلايستيشن" في غرفة أخرى مع صاحب المركز .. يلعب شوطًا ثم يعود إلينا ! 

أما التنمية البشرية فقد كانت سبوبة رائعة .. 

تجمع بعض الحمقى وتقنعهم أنك جعلتهم أفضل .. وتهبر مالهم وتهرب ! 

وحين انكشف أمرهم .. وأصبح الناس يسخرون منهم "لأحمد أمين سكيتش عبقري عنهم" .. تحول الاسم إلى "لايف كوتشنج" أو "مدرب علاقات" أو أي شيء .. المهم أن تستمر السبوبة ! 

عرفت واحدًا يطلق على نفسه "مدرب تنمية إيمانية" .. وكل كلامه بالقرآن والسنة .. ويتحفنا على الفيسبوك بأدعية مسجلة بصوته .. ويطلق عليه متابعوه "الشعراوي الجديد" 

لا اعتراض لدي .. لكن الظريف أنه كان حكاكًا محترفًا .. ولم يترك فتاة إلا وحاول التعرف عليها .. ويحكي لنا مغامراته العاطفية العديدة !! 

وحين واجهته قال بتواضع "أنا مش شيخ ولا داعية .. أنا مدرب تنمية إيمانية" !! 

أي سخف وأي خداع ؟ 

حتى في مجال الهندسة .. حين نجد زميلًا لنا عاجزًا عن إيجاد عمل .. نقترح عليه أن يقدم محاضرات عن أي برنامج يجيده ! 

عن نفسي توقفت عن متابعة سوق الكورسات .. وحين أحتاج تعلم برنامج ما أو أي شيء يخص عملي .. أبحث على النت باللغة الإنجليزية .. فأجد كل شيء .. ودون أي مجهود أو تكلفة ! 

فأنا أكره أن يخدعني أحد .. ولن أجلس في مكاني أنتظر مانشستر يونايتد .. بل سأعلم نفسي كل شيء .. ولن أنتظر شخصًا يتعطف علي بمعلومة تكلفني مبلغًا وقدره .. 

ومع الوقت عرفت كيف أتعلم بالـ"دعبسة" .. أقتحم ما أريد تعلمه وأجمع معلومات من شتى المصادر وأجرب بنفسي إلى أن أتقنه .. 

ماذا ؟ تريد أن تتعلم هذا أنت أيضًا ؟ 

الأمر بسيط .. خد كورسات يا حبيبي ..