رسالة إلى ابني الذي لن يأتي..
ابني العزيز ..
هناك رسائل شهيرة .. رسالة بيتهوفن إلى حبيبته المجهولة في مطلع القرن التاسع عشر .. رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة .. رسائل كافكا ومالينا .. بل إن هناك مسلسلًا رسوم متحركة شهيرًا يقوم بالكامل على رسائل اليتيمة "جودي آبوت" إلى المتبرع المجهول الذي رعاها طوال حياتها دون أن تعرف اسمه .. ودون حتى أن ترى منه إلا ظله الطويل وهو يمشي مبتعدًا .. لتخرج لنا رائعتها "رسائل إلى صاحب الظل الطويل" ..
حسن .. لست هنا بصدد كتابة روائع كهذه .. وللأسف لن يخلد التاريخ رسالتي لك .. لعل أحدًا لن يقرأها أصلًا .. لكني أجد نفسي مجبرًا وأنا على أعتاب الثلاثينات أن أبرر موقفي .. وأشرح لك لماذا لم أنجبك .. ولماذا لن تأتي إلى الدنيا ..
لقد أساء العالم لوالدك كثيرًا يا بني .. وعجزت تمامًا عن فهمه .. وتوقفت حتى عن محاولة هذا ..
لم أفهم .. هل الأخلاق والمبادئ هي الحل ؟
لا .. فالسواد والهباب يسيطران على كل ركن فيه .. وإذا تعاملت بالأخلاق فقط قد تعجز عن كسب لقمة عيشك .. وتعيش حياة قاسية ..
قد أربيك مثلًا على "الجدعنة" والرجولة والوقوف مع المحتاج .. لكني سأعجز عن تفسير تخلي الجميع عنك حين تحتاجهم .. لن تفهم لماذا حدث هذا ؟
هل أربيك على البراجماتية ؟ وأن ترفع شعار مصلحتك أولًا ؟
أغرس فيك مبدأ "عم عشم مات من النهاردة خد وهات" ؟
وما فائدة أن أربي للعالم وحشًا آخر يدوس بقدمه على كل من يعترض مصالحه ؟
هي دنيا قبيحة يا بني .. تتكون من 99% من الألم .. و 1% من السعادة ..
كيف ألقيك في أتونها لتحترق ؟ لن يطاوعني قلبي ..
كيف أفسر لك الخازوق المتين الذي ستعطيه لك حبيبتك الأولى ؟
كيف أشرح لك أنها ستتركك لأنك مازال أمامك أعوام من تكوين نفسك لتستعد للزواج ؟ ولعنة الفقر تلازم والدك .. ولن يتحول إلى عبد الغفور البرعي فجأة .. لأن الحياة ليست كالمسلسلات العربي للأسف ..
والدك تعرض لهذا الموقف .. وشعر بذلك الألم القميء في قلبه .. وتجاوزه بصعوبة ..
كيف سأنصحك بأن تتخلى عن مجال تحبه .. عن موهبة تجيدها .. لأنها في الأغلب بلا مستقبل .. وأجبرك على التحول إلى شخص عادي .. يعمل في مهنة لا يحبها لكن سوق العمل أجبره عليها ؟
لا أعرف ما سيحدث في المستقبل .. لكن الزمن لا يزيد الأوضاع إلا سوءًا .. وفي الأغلب ستخرج إلى الدنيا لتجد عالمًا شبيهًا بعالم فيلم "Wall-E" .. عالم دمره التلوث .. وتحول البشر إلى كائنات سمينة لزجة عديمة التفكير .. لا يشغلهم إلا الطعام والتكنولوجيا الحديثة التي توفر عليهم الحركة ..
والأسوأ أن الإسفاف أصبح هو المسيطر الآن ..
لن أستطيع حمايتك من التلوث الفكري الذي أصبح يفعم كل شيء .. بداية من بوستات الفيس بوك وفيديوهات اليوتيوب .. وحتى الحروب السياسية والعلاقات بين الدول ..
تظن أن الصورة سوداء ؟ تقول أن الخير يظل موجودًا ؟
نعم .. ربما ..
لكن الخير أشبه بالذهب .. لامع نفيس .. ونادر جدًا ..
أما الإسفاف والابتذال والشر فهم أشبه بالتراب .. والتراب دائمًا أضعاف الذهب .. ويغطيه بنجاح تام ..
ربما لو أنجبتك لقرأت معك رواية "الاسم : شكسبير" .. التي كتبها العبقري أحمد خالد توفيق .. ووضح بنجاح كيف يقضي الابتذال على كل ما هو جميل .. وبمنتهى السهولة ..
قارن الماضي بالحاضر في أي شيء ..
المباني .. السيارات .. الأثاث ..
ستجد الماضي دائمًا أنيقًا .. مزخرفًا .. مصنوعًا بإتقان وحب ..
أما الحاضر فستجد الكم دائمًا يتغلب على الكيف ..
الضخامة والفخامة الخادعة .. والإنتاج السريع بأعداد ضخمة ..
السرعة المحمومة لكسب أكبر أرباح ممكنة .. لا أحد يملك البال الرائق لإخراج منتج أنيق يضاف إلى جماليات الحضارة ..
أصبحنا عالمًا كاملًا من المقاولين البلدي .. المعلم حلاوة الذي يسعى لإنهاء العمارة ليبني التالية بعد شهر واحد .. ولتذهب كل قيم الجمال إلى الجحيم ..
حفلات الزفاف الدافئة التي كانت تقام على أسطح البيوت .. ويغمر الحب والصدق المكان حتى ليغرق المنطقة .. تحولت إلى قاعات باردة تحاول أن تبدو فخمة .. ومنظمون ومطربون لا يهمهم الزفاف في شيء .. بل يهمهم ما سيدفعه العريس ..
تعليم فاشل ومدارس تدخلها جاهلًا لتخرج منها أكثر جهلًا .. لكنها تبدو فخمة وتعطيك شهادة أنيقة باللغة الإنجليزية ..
وظائف عبيطة .. تتظاهر أنها مهمة .. وتتظاهر أنت أنك تعمل .. ويتظاهرون أنهم يعطونك راتبًا .. لكنك لا تنتج شيئًا ولا تفيد البشرية بمقدار شعرة ..
سامحني يا بني .. أنا لن أتحمل أن أرمي بك وسط كل هذا ..
قد تقول أن البشر يتزوجون وينجبون ..
قد تقول أن نظرتي سوداوية كئيبة ..
لا أملك إجابة بصراحة ..
قد أكون أذكى أو أغبى منهم .. لا أعرف في الحقيقة ..
ما أعرفه أني لا أرى أي ضوء في نهاية النفق .. ولا أمل عندي في انصلاح الأحوال ..
أشعر أني سأظلمك .. فقط لأرضي شهوتي بالزواج وتكوين أسرة !
لا تغضب مني .. أنا لن أكون أبًا جيدًا ..
أنا يا بني فاقد الهمة .. فاقد الأمل .. فاقد الرغبة في الحياة ..
تحولت الحياة بالنسبة لي إلى أيام أنتظر انتهاءها بلهفة ..
ولم أقتنع بنصيحة الآخرين أن تفكيري سيتغير حين أتزوج ..
ماذا لو لم يحدث ؟ ما هو مصيرك ؟
أنا لست أنانيًا .. ولن أنجبك لتتعذب في الدنيا فقط لأكون أنا سعيدًا .. وأقنع نفسي أني رائع !
لن أنجبك استجابة لضغوط المحيطين بي .. الذين ربطوا السعادة والاستقرار بالزواج والإنجاب !!
سامحني يا بني ..
سامحني لأنك لن تأتي ..
ربما تدرك فيما بعد أن هذه أفضل هدية من والدك ..

No comments:
Post a Comment