مأساة عصير التوت
أنا شخص تافه رائق البال كما تعرف ..
الجميع طبعًا مهمون .. ولا يملكون وقتًا لأي شيء ..حتى لو مكالمة هاتفية !
تقول أن هذا كلام فارغ ؟ وأن لا أحد مشغول لهذه الدرجة ؟
إذن أنت شخص تافه مثلي .. فكل أصدقائي الذين رحلوا ولم أعد أعرف عنهم شيئًا أكدوا أن هذا بسبب مشاغلهم العظيمة .. وأنهم إذا أغفلوا عيونهم لدقيقة واحدة ستنطبق السماء على الأرض .. وقد يحدث غزو فضائي غاشم من جيش كوكب "أرغوران" .. وربما يظهر وحش "لوخ نس" على شاطئ جمصة محدثًا دمارًا لا بأس به ..
هناك صديق أكد لي أنه قد اختفى تمامًا من حياتي لأنه ضمن خطة عالمية تتصدى لمحاولة الساحر "بابيدي" إحياء الشرير "ماجين بو" .. وكما تعرف .. إذا عاد "ماجين بو" فهي نهاية البشرية حتمًا .. ما لم يظهر "جوكو" ويقتله بالـ"جينكي داما" ..
أتعرف السفينة التي علقت في قناة السويس ؟ نعم .. كان قائدها صديقي .. وحين رفع هاتفه ليتصل بي انحرفت السفينة وحدثت الكارثة !
كان الله في عونهم جميعًا .. أنا ـ كإنسان تافه عديم الأهمية ـ أجلس على المقهى وأدعو الله أن يوفق هؤلاء المهمين العظماء في أعمالهم الخطيرة ..
ولأني تافه جدًا .. شعرت بالملل وقررت الخروج للتمشية ..
حينها رأيت أحد المحلات يبيع مشروبًا غازيًا بطعم التوت .. وتذكرت رأي أحدهم حين جربه أن طعمه سيء ويشبه "دواء الكحة" ..
وأنا رائق البال كما قلت .. لذا تأملت في الموضوع طويلًا .. ونجحت في استخلاص نظرية فلسفية لا بأس بها ..
فالأدوية في الماضي كان طعمها سيئًا جدًا .. وهناك مقولة أنه كلما كان مذاق الدواء سيئًا كان مفعوله أقوى !
هنا تفتق ذهن أحد صناع الأدوية عن فكرة شيطانية ..
الجميع يحب عصير التوت .. لما لا نعطي الأدوية نكهته ؟
وهكذا امتزجت الأدوية بالتوت .. ولفترة كان الجميع سعداء .. بل كان الأطفال يدعون المرض ليشربوا بعض الدواء اللذيذ !
لكن مع مرور الوقت .. التصقت تهمة "طعمه دوا كحة" بعصير التوت المسكين !
وبعدما كان لذيذًا محبوبًا .. ارتبط للأبد بالمرض والسعال والمستشفيات .. وانصرف عنه الناس للمانجو والبرتقال والتفاح .. وانزوى التوت وحيدًا يجتر ذكريات الماضي الأليمة ..
هل هذا جزاؤه ؟ أراد أن يخفف عن الناس مرارة الدواء .. فأصبح هو المرارة !
وهنا قادني بالي الرائق لإسقاط مصير عصير التوت على العلاقات البشرية ..
لفترة طويلة .. كنت رفيق الاكتئاب الدائم للجميع ..
كل من يواجه مشكلة ما .. كان يتصل بي .. أنا مخنوق ما تيجي ننزل ..
أيًا كانت المشكلة .. مشكلة عاطفية .. عائلية .. فقدان وظيفة .. أحلام خيالية يعجز عن تحقيقها ..
لا أذكر كم مرة جلست مع شخص مكتئب .. أحاول التسرية عنه والبحث عن حل لمشكلته ..
بعد أعوام من الغوص في المشاكل .. اكتشفت أمرًا كان واضحًا .. لكني أحمق ولم أنتبه له !
اكتشفت أن من تحل مشكلته بفضل الله .. يختفي !
من كان يبحث عن وظيفة .. ويقابلني يوميًا ليلعن الظروف التي جعلته عاطلًا .. بمجرد أن جاءه الرزق .. يختفي تمامًا !
من كان يعاني أزمات عاطفية .. بمجرد زواجه .. لا أعرف عنه شيئًا كأنه هاجر إلى نيوزيلاندا !
مع الوقت .. استقرت حياة الجميع .. ولم يعد هناك من يعاني أزمات كبرى ..
نعم .. كما استنتجت .. أصبحت وحيدًا تمامًا .. ولم يعد أحد يسأل عني !
خطيبتي السابقة كانت تعاني من مشاكل هائلة حين عرفتها .. ولا تكف عن البكاء تقريبًا .. وتعاني اكتئابًا رهيبًا .. وانطفاءً بلا حدود ..
ظللت بجوارها عدة أعوام قبل حتى أن تصير خطيبتي .. وقدمت لها كل الدعم حتى تغلبنا معًا على كل الأزمات .. وعادت لها الحياة بأفضل ما يكون .. ثم هجرتني !
وقالت أن السبب أني كئيب جدًا .. وأضغط أعصابها بشدة !
ثم فهمت أخيرًا ما حدث !
لقد تحولت إلى عصير التوت !
ارتبط وجودي بالاكتئاب والأزمات .. كما ارتبط طعم التوت بدواء الكحة !
تحولت إلى شخص كئيب .. كل من يراه يتذكر مشاكله وأزماته .. !
وكنتيجة طبيعية .. تحولت إلى شخص عديم الإحساس ..
حتى حين أواجه مشكلة ما .. أغلق على نفسي تمامًا حتى أحلها ..
فقدت الإيمان بالعلاقات البشرية بكل أنواعها .. أساسًا ما نوع العلاقة التي تعاملني كخزان أحزان حتى أمتلئ .. ثم ينفض عني من فرغت أحزانه ؟!
لذا ها أنا الآن .. شخص تافه وحيد .. جالس أكتب مقالًا لن يقرأه أحد .. وأشرب عصير التوت على سبيل السخرية اللاذعة ..
بيني وبينك .. يذكرني فعلًا بدواء الكحة !

No comments:
Post a Comment