متلازمة دون كيشوت
هل سمعت عن "دون كيشوت" ؟
رواية عبقرية هي .. في الواقع كل كتابات "سرفانتس" عبقرية .. لكن دون كيشوت تحمل سحرًا مختلفًا بلا شك ..
"دون كيشوت" كهل متوسط الحال .. مبهور بزمن الفرسان .. حين كان الرجال رجالًا .. وكانت الخلافات تحل بحد السيف .. قبل أن يتحول الجميع إلى عالم طرية فجأة ..
وفي يوم أغبر .. امتطى "دون كيشوت" فرسه الهزيل .. وحمل درعه وسيفه .. وسحب في ذيله فلاحًا غلبانًا أشد الغلب اسمه "سانشو بانزا" .. وانطلق بحثًا عن مغامرة ما ..
وكما قلت لك .. كان هذا العصر بداية تحول الجميع إلى كائنات طرية بغيضة .. وكان عقل عمنا "دون كيشوت" خفيفًا نوعًا ما .. فانغمس في محاربة طواحين الهواء .. متخيلًا إياها وحوشًا عملاقة .. تحتاج فارسًا مغوارًا ليخلص العالم منها !
طبعًا اتهمه الجميع بالجنون .. وحاولوا علاجه .. لكنه مات في النهاية بالحمى !
الملفت هنا أن "سرفانتس" تعمد ذكر أن "دون كيشوت" كان يعرف أن ما يفعله بلا جدوى .. لم يكن مجرد مجنون ..
والقصة كلها تدور حول أنك قد تتصارع مع خرافات وأوهام لا يراها غيرك لتحقيق أهدافك .. لكنك في الطريق تفقد الكثير .. وقد تفقد حياتك ذاتها !
اشتهرت بعدها "متلازمة دون كيشوت" .. واتصف بها كل من يحارب وحيدًا أعداءً لا يراهم غيره .. أو يحاول حل مشكلة لا يراها أحد مشكلة أساسًا !
وألهمت العديد من صناع الفن .. ولعل أقربها فيلم "Birdman" .. الذي يوضح معاناة "مايكل كيتون" في إنتاج مسرحية هادفة من بطولته .. في حين يرى كل من يشاركه أنها محض بلاهة ومحكوم عليها بالفشل .. ولكنهم مضطرون للعمل معه لأسباب مختلفة !
لا أنكر أني كلما رأيت من يعاني متلازمة دون كيشوت .. أشعر بضيق في صدري لم أكن أفهم سببه ..
لكني فهمت الآن !
السبب ببساطة أن حياتي كلها تنويعة على متلازمة دون كيشوت !
أتذكر أيام النشاط الثقافي .. كان هدفي من البداية هو رفع مستوى الوعي للجيل الجديد ..
كان في مخيلتي أن تنتشر في مصر كلها مكتبات متنقلة .. توزع الكتب المفيدة مجانًا على الأطفال ..
أحلم بمراكز للكيان الثقافي الذي أسسناه في كل مكان .. يجمع الأطفال ويدربهم بطرق مدروسة على القراءة .. وتذوق الفن .. والمناقشة المثمرة .. وتكوين وجهات النظر .. وتقبل الوجهات الأخرى ..
كنت متحمسًا جدًا .. ومؤمنًا أن الهدف صعب .. وقد يستغرق أعوامًا طويلة .. لكني كنت أنوي الموت وأنا أحاول ..
لكن بمرور الوقت . اكتشفت أني الوحيد وسط الفريق الذي يؤمن بهذا المشروع !
وأن الجميع يتعامل مع الأمر على أنه نشاط ما وخلاص .. مجرد عمل تطوعي مرح يملأ به ساعات فراغه لا أكثر ..
والبعض كان لديه أجندة مختلفة .. ببساطة يريد الشهرة فقط ..
واكتشفت أنهم جميعًا كانوا "بياخدوني على قد عقلي" .. ويرونني حالمًا ساذجًا يحارب الطواحين ..
ظللت أحاول أعوامًا عديدة .. ومع أناس مختلفين .. بلا فائدة .. خاصة أني أؤمن أن النجاح في مشروع بهذا الحجم لن يكون إلا بإيمان عدد كبير بالفكرة ..
مع الوقت والعديد من التجارب الفاشلة .. انزويت وحيدًا .. وفقدت الطموح ..
حتى حين كونت وجهة نظري في الحياة .. يراها الكل غريبة .. ولا أحد يوافقني عليها ..
كل النقاشات التي أدخلها تتلخص في أن الجميع يعارضون آرائي !
لا أذكر كم مرة قال لي أحدهم "انت تفكيرك غريب اوي" ..
واكتملت المأساة حين بدأت كتابة مقالاتي هذه ..
فالتعليقات لا تخرج عن "مقالاتك غريبة / أسلوبك حلو بس انت كئيب أوي / انت محتاج تروح لدكتور نفسي " ..
منذ أيام قال لي أحد الزملاء في العمل أن كلامي غريب جدًا .. ليرد عليه أحد القدامى ضاحكًا "بقاله معانا أربع سنين مش عارفين نفك الطلاسم بتاعته" !!
فلم أفهم .. أنا أرى نفسي طبيعيًا .. وكل فكرة غريبة أخرج بها أكون قد قتلتها فحصًا ودراسة .. ولا ألقي الكلام على عواهنه أبدًا !
بدأ القلق يساورني ..
هل أنا بالفعل غريب ؟
هل يراني الجميع مجنونًا كـ"دون كيشوت" ؟
هل سيحكم علي بالبقاء وحيدًا دائمًا ؟
المشكلة أني لا أرى نفسي مخطئًا .. ولا أؤمن أن ما أفعله بلا جدوى .. لذا فإذا كنت "دون كيشوت" فعلًا .. ستكون مأساة كبرى .. على الأقل هو كان واعيًا أن ما يفعله بلا فائدة !
على أية حال أنا مستمر في أفكاري وآرائي .. ولم تكن آراء البشر تساوي جناح بعوضة بالنسبة لي .. وستظل هكذا دائمًا .. وسأدعو الله أن تكون نهايتي سريعة كـ"دون كيشوت" .. فلم تعد صحتي تحتمل محاربة الطواحين مدة طويلة !!

ادام الله عمرك ايها البائس ❤️
ReplyDeleteالله ينور
ReplyDelete