Friday, July 15, 2022

ناركيسوس الرائع



ناركيسوس الرائع

إذا كنت من قرائي القدامى – وأنا أشك – فستعرف أني كنت أعمل زمنًا في دولة مالاوي بجنوب افريقيا ..

ماذا ؟ لا تعرف ؟ إذن أقول لك وبكل ثقة .. كنت أعمل زمنًا في دولة مالاوي بجنوب افريقيا !

كانت منظمة من المفترض أن تكون خيرية .. وكان عملي الأساسي في الإنشاءات .. مدارس .. مساجد .. دور العجزة والأيتام ..

يبدو الأمر رائعًا كما ترى .. تقدم هذا النوع من الخدمات في هذا الطرف المنسي من العالم .. وسط فقر مدقع لن ترى له مثيلًا إلا إذا ذهبت إلى هناك !

لكن هناك تفاصيلًا كانت تعكر صفوي ..

كانت المشروعات تمول عن طريق التبرعات .. وكل مشروع لا بد عند افتتاحه من إقامة حفل يجمع أهل القرية المستفيدة .. وأن يتم تصويره كاملًا ..

لا بأس .. يجب كما تعلم أن يطمأن المتبرع أن ماله قد وضع في مكانه الذي حدده .. وهذا قد يبرر أيضًا اللافتة التي يجب وضعها بجوار المنشأ حاملة الاسم الذي يحدده المتبرع ..

لكن في مرة حدث موقف غريب ..

فوجئت بنفسي محولًا للتحقيق .. بسبب اعتراض أحد المتبرعين على ما حدث في مشروعه !

لا تسئ فهمي .. أنا كمهندس مشهور بقدرتي على إنهاء العمل بأقل تكلفة .. وبأعلى قدر آمن من الـ"عبيله واديله" .. لكني هناك كنت حريصًا على الجودة أكثر من التكلفة ..

الباشا المتبرع اعترض على الاسم الذي تم وضعه على اللافتة .. لأني وضعت اسمه الرباعي بدلًا من الخماسي !

أعترف أني مخطئ .. لكن اسمه طويل جدًا .. ولم أجد له مكانًا على اللافتة .. فاختصرت اسمًا منه .. وكنت ساذجًا حينها .. وافترضت أنه متبرع طيب القلب لا يهمه إلا أن يتم تنفيذ المشروع !

طبعًا تمت طباعة لافتة أخرى حاملة اسمه الكامل على سطرين .. وتمت إعادة الافتتاح بكافة تكاليفه !

هنا بدأت غشاوة السذاجة تزول من عيني .. وعرفت أن الهدف ليس التبرع ولا عمل الخير ولا يحزنون .. بل الأمر كله مجرد "منظرة" لا غير !

خاصة حين بحثت على الفيسبوك ووصلت لهذا الشخص .. ووجدت أنه أغرقه بصور وفيديوهات الافتتاح .. مع بوستات دينية مؤثرة تؤكد كم هو شخص زاهد رائع !

حينها قمت ببعض "النخورة" التي كلفتني عدم تجديد عقدي بالمنظمة .. وتهديدي أحيانًا بالإبلاغ عني وسجني .. فهم يحتفظون بجواز سفري !

اكتشفت أنه ليس هناك خير ولا يحزنون .. بل كلها مصالح وسبوبة بإسم التبرعات .. وأن المنظمة خيرية فقط حين تدفع رواتبنا .. ما عدا هذا هناك سرقات من كل لون ..!

خذ عندك متبرعًا آخر ببناء مسجد .. أصر على وضع 100 مصحف بمسجده .. وساعات يا مؤمن أحاول إقناع الجميع أن القرية لا تحوي مئة شخص أصلًا .. وأن عدد المسلمين لا يزيد عن 20 فردًا ..

والآخر الذي "زغللت" المنظمة عينيه .. وأقنعته أن يضيف "ساوند سيستم" يعمل بالطاقة الشمسية إلى المدرسة التي تبرع بها ..

تخيل قرية بلا كهرباء ولا خدمات وبيوتها مصنوعة من الطين .. وأهلها لا يجدون قوت يومهم .. ويتم تركيب نظام طاقة شمسية لتشغيل مايكروفونات بالمدرسة !

طبعًا كان كل شيء يتم سرقته بعد الافتتاح بساعتين .. خاصة أنه يساوي 2000 دولار .. في بلد متوسط دخل الفرد فيها شهريًا 20 دولارًا !!

لكن هذه الأشياء تبدو أجمل في الصور والفيديوهات .. وتصبح مادة خصبة لبوستات دينية أخرى على الفيسبوك !

عدت من هناك وقد تغيرت نظرتي تمامًا للتدين ..

وعلى طريقة الحكمة بأثر رجعي .. تذكرت أصدقائي الذين قرروا فجأة أنهم سلفيون متدينون في الفترة من 2011 إلى 2013 ..

أطلقوا اللحية وحفوا الشوارب .. وقصروا سراويلهم عند الترزي بجوار بيوتهم .. وعطشوا حرف الجيم .. ورسموا على وجوههم ابتسامات سمجة ..

وهكذا اقتنعوا أنهم قاموا بكل شيء .. وتبقى فقط المزايدة على الجميع !

أذكر حينها أنهم بلا استثناء كانوا جهلة غاية الجهل .. وبائع الخضر في السوق كان مثقفًا أكثر منهم .. لكنهم كانوا طوال الوقت يؤكدون أنهم متدينون ومسلمون كما قال الكتاب .. وأن كل من يخالفهم كافر أكفر من أبي لهب ذاته !

المظاهر .. المظاهر ..

هذا هو اسم اللعبة ..

المعرفة الحقيقية صعبة .. وتحتاج مجهودًا وقراءات وتشغيل دماغ .. أما المظاهر و"الزياط" فلا أسهل منهما !

المظاهر والزياط سيجعلانك متدينًا رائعًا .. وفي مجال العمل سيجعلونك مجتهدًا متفوقًا .. طبقًا للنصيحة القديمة "لتبدو ناجحًا في عملك عليك دائمًا بالتحرك بسرعة راسمًا على وجهك علامات الخطورة حتى لو كنت ذاهبًا لعمل كوب من الشاي !"

القصة هنا أن المعرفة بحر واسع .. ومن يريد الحقيقة سيكتشف أن كل ما يعرفه مجرد شربة من البحر .. أما الأحمق الزياط .. فحين يحصل على قطرة واحدة سيعتقد أنه ملك العلم بيمينه .. ويصعر خده للجميع معلنًا كم هو رائع !

عرفت متدينين حقيقيين .. يحملون دائمًا هم الشك .. يعرفون أنهم لن يجمعوا مفاتيح العلم جميعًا .. ولا يقول رأيًا إلا بحذر .. ويسعى دائمًا لزيادة معرفته .. ولا يحاول الحكم على أحد أو على رأي مختلف لأنه يعتبر نفسه دائمًا تلميذا للعلم السماوي ..

عرفت أناسًا أكفاء في مجال العمل .. كلما تحدثت معه في أمر ما بدا الاهتمام على وجهه .. حتى لو كان خبيرًا في مجاله .. لكنه يستمع باهتمام لعله يتعلم شيئًا جديدًا ..

لكن المشكلة أن هؤلاء الحقيقيون لا يجيدون فن الظهور .. وتظل لديهم دائمًا عقدة أنهم لازالوا يتخبطون في بداية الطريق ..

أما الحمقى والزياطون والجهلة .. فيحبون أنفسهم بشدة .. ويشعرون بأهمية منح العالم خدمة عظيمة بوجودهم وظهورهم .. ومن المثير للدهشة أن جميعهم موهوب في تسويق أنفسهم ..

ويكاد الواحد منهم أن يقبل صورته في المرآة كما فعل الأخ ناركيسوس في العصور الغابرة ..

فتجد نفسك في النهاية واقعًا في مستنقع مليء بالزياطين وكدابين الزفة .. وجميعهم "يبدو" عالمًا .. و"يبدو" متدينًا .. و"يبدو" كفئًا ..

بل ويصلون للمناصب أسرع منك بكثير .. وأي انتقاد منك يتم تفسيره على أنه حقد على هذا الشخص الرائع !

ما الحل ؟ لا يوجد .. عليك إما الاقتناع بالبقاء في الظل وأن تتعلم طوال الوقت لتطوير نفسك لنفسك ..

أو تقرأ نصف كتاب هايف وبعض بوستات الفيس بوك .. وتزايد وتشتم جميع من حولك وتتهمهم بالجهل أو الكفر أو انعدام الكفاءة .. وتحتضن صورتك في المرآة وتقفز في مستنقع الزياط الواسع !









4 comments: