Friday, December 6, 2019

من فعلها ؟



من فعلها ؟

هناك قصص وذكريات لابد من كتابتها .. ويعد ضياعها في غياهب النسيان جريمة .. 

عرفت فتيات بلهاوات يكتبن مذكراتهن للتظاهر بالأهمية .. ولأنهن يرين بطلات السينما يفعلن هذا .. 

ولا تخرج مذكراتهن عن الهراء العاطفي إياه ... 

في رأيي أن كتابة المذكرات يجب أن تكون حكرا على شخصيات غير تقليدية .. مثل أينشتين و زويل والعقاد ونجيب محفوظ وعلي مشرفة .. والعبد لله طبعا .. 

نسيت أن أعرفك بنفسي .. أنا (محمود) .. (محمود فتحي) .. أعمل رائدا في المباحث .. 

وأنا لا أكتب مذكراتي لأني عظيم أو عبقري - لا سمح الله - بل لأني مررت بتجربة غريبة على مدى عدة أعوام ... 

تجربة كانت من بطولة فتاة غريبة الأطوار . 

لا تضحك بخبث يا أخي .. ليست تجربة عاطفية حتما .. ما هذه الدماغ الشمال ؟ 

لا تتوقع مني أن أسود صفحات لأحكي لك عن تباريح الهوى والفؤاد .. !! 

كانت عبقرية .. حتى أني أشك حتى الآن أنها حتما باعت روحها للشيطان لتحصل على هذا العقل الجبار ! 

لا بد أنك فهمت الآن .. رائد مباحث وفتاة عبقرية ... إذن الأمر متعلق بحل ألغاز جرائم غير تقليدية .. 

بمعنى أدق هي قصة من نوعية "من فعلها ؟" الشهيرة .. 

و سأبدأ البداية التقليدية .. وستضطر آسفاً لتحملي في البداية حتى ندخل في ما هو جديد ... 

كانت قضية من النوع الذي نعرف أنه حتما لن ينتهي إلى أي شيء .. وفي الأغلب لن يشك أحد أن فيها شبهة جنائية أصلا .. 

رجل عجوز يحيا وحيدا في شقة فاخرة بمنطقة راقية .. بعد وفاة زوجته و زواج أبناءه ورحيلهم خارج البلاد ... كالعادة يشكو الجيران من الرائحة الكريهة .. يحطمون الباب .. يعثرون على جثته .. قصة تقليدية مملة رغم مأساويتها .. لكنها تبقى تقليدية وواضحة .. فلا آثار للعنف .. ولا جروح .. ولا طعنات ولا آثار خنق ولا أي شيء ... والتشخيص المبدئي هو أزمة قلبية .. 

حتى خزنة الأموال مغلقة بلا أدني أثر لمحاولة فتحها .. نعم خزنة .. فتحرياتنا أثبتت أن الرجل لم يكن يؤمن بفكرة البنوك .. ويعتبر أن طريقة "تحت البلاطة" الشهيرة هي أنسب حل للحفاظ على الأموال !! 

كانت الرائحة شنيعة شيطانية .. والجثة تعفنت لدرجة أن قدميه انتفختا بشكل غريب .. 

نظرت للطبيب الشرعي بشفقة .. حتمأ هو الآن يتمنى لو كان دخل كلية الآداب !! 

على أية حال انهمكنا في أعمالنا التقليدية .. من رفع للبصمات وبحث عن آثار دماء ... 

لكن فجأة ساد الصمت ... وارتفعت الوجوه نحو باب الشقة ... !! | 

لقد وصلت "هند" ... !! 

*** 

نحيلة إلى حد لا يصدق .. تمشي منحنية إلى الأمام لسبب ما ... 

لا تستطيع القول أنها قبيحة .. لكنها لم تكن تهتم بوجهها بمقدار ذرة ... وشعرها منكوش .. لا .. ليس نكشة فاتنة مثل ميريام فارس و دينا الوديدي .. بل منكوش بعنف .. بشدة .. 

وأجزم أنها لا تملك أطنان الثياب التي تملكها فتيات في مثل عمرها ... وأجزم أيضا أنها اشترت هذا السروال وهذه السترة من محل للملابس الرجالية !! 

دخلت سريعًا إلى غرفة نوم العجوز ... 

لم أكن أعرفها .. فملت نحو أحد أفراد المعمل الجنائي وسألته : 

. "من هذه ؟ هل هي مجنونة العمارة ؟" 

نظر الرجل إلي بهلع وأشار لكي أخفض صوتي وقال هامسة : 

." ألا تعرف (هند) ؟ إنها تعمل كمستشارة للوزارة .. يستدعونها دائما في القضايا الصعبة ... ويقولون أنها تتعامل مع وزير الداخلية شخصيا !! " 

. " إذن ما قصة مظهرها الغريب ؟" 

. " لا أحد يعرف قصتها بالضبط .. لكنهم يقولون أنها سافرت مع أهلها إلى أحراش إفريقيا بسبب ظروف عمل والدها .. لكن الأسرة اختفت هناك وتم اعتبارهم مفقودين .. حتى ظهرت (هند) بعد خمسة أعوام كاملة !! يقولون أنها كانت طبيعية قبل الحادث ... لكنها منذ عادت صارت غامضة وطباعها شاذة للغاية و.. 

قطع الرجل عبارته ونظر خلف كتفي بارتباك .. فاستدرت بتلقائية و .. !! 

اصطدمت بعينيها ... 

لا يا أخي لم أقع في الحب .. هل قرأت وصفي لها منذ عدة أسطر ؟ 

عيناها مخيفتان .. تحيط بهما تجاعيد مبكرة ... ونظرتها باردة مرعبة ... كأنك تنظر في عيني جثة !! 

ارتبكت قليلا .. وحاولت نطق أي شيء .. لكن الكلمات انحشرت في حلقي .. 

اللعنة !! 

ماذا سيقول المجندون عني وهم يرونني بهذا الارتباك ؟ تماسك يا (محمود) .. 

. "كيف حالك ؟" 

قالتها "هند" فجأة بصوت خالٍ من أي انفعالات .. فتحت فمي لأجيبها لكنها تركتني وذهبت نحو الجثة .. 

فقلت بغيظ : 

."حتى لو كانت عبقرية .. من اتصل بها ؟ إنها قضية واضحة .." 

لكن أحدا لم يجبني .. وظلت العيون تتابع فحص تلك المعتوهة للجثة .. ثم مالت على الطبيب الشرعي وسألته : 

."ما تشخيصك ؟" 

نظر لها باشمئزاز وقال بضيق : 

."هذا واضح .. إنها أزمة قلبية .." 

هنا قامت "هند" بآخر فعل يمكن أن نتوقعه !! 

لقد أمسكت الطبيب من قفاه .. وجذبته بقسوة لتبعده عن الجثة ... وهي تقول بغضب : 

. "يا لك من أحمق جاهل .. أي أزمة قلبية يا عبيط ؟ ألا ترى الأعراض الواضحة ؟" 

حاول الطبيب أن يتملص منها بلا فائدة .. 

. " اتركيني أيتها المجنونة ... ليس هذا من حقك !!" 

."لا تتكلم عن الحقوق .. فالحمقى لا حقوق لهم منذ عهد الفراعنة" 

لم يكن الطبيب ضعيف البنية ... لكن "هند" كانت كاسحة صارمة ... وارتباك المفاجأة منعه من أي رد فعل عنيف !! 

."أنظر أيها الغبي .. ألا يذكرك هذا المنظر بأي شيء؟" 

قالتها ودفعت رأسه دفعًا إلى قدمي العجوز المنتفختين ... ياللمسكين !! 

."لو كلفت خاطرك بنظرة واحدة لصورة العجوز الحديثة المعلقة على الحائط .. لوجدت أن شعره كثيف والآن نصف شعره تقريبا قد سقط .. هل أصيب شعره بأزمة قلبية فسقط يا عبقري ؟" 

وقبل أن يرد الطبيب تابعت بغضب وهي تهزه بعنف .. (لماذا لا يتدخل أي أحد منا ؟ كأننا غائبون عن الوعي !) 

."ولو نظرت أمامك هنا لأحذية الرجل .. لوجدت أن هناك حذاءين جديدين .. مقاسهما أكبر من بقية الأحذية القديمة .. إن انتفاخ الأقدام ليس من العفن أيها الذكي !" 

تجمدت بذهول .. وهرعت أتأكد من كلامها .. فعلا .. كلام هذه الشيطانة دقيق !! 

أطلقت "هند" سراح الطبيب .. ودفعته بعيدًا بقسوة ... فصرخ بغضب .. وهم بالقفز ناوياً حتما تحطيم عظامها لولا أن صحت بصرامة : 

."يكفي يا دكتور .. ليس هذا وقت الشجار .. دعنا نسمع ما تقوله الآنسة هند" 

نظرت لي (هند) بسخرية دفينة .. ثم تابعت كأن شيئا لم يكن .. وهي تدور في الصالة بقامتها المنحنية للأمام : 

. "تساقط في الشعر .. تورم في القدمين ... تغير في لون الأظافر .. لكنكم لم تلاحظوه لأنكم تخافون تأمل الجثث ككل الحمقى .. هذه أعراض واضحة " 

."هل تعنين ... ؟" 

."بالضبط .. تسمم الزرنيخ .." 

تصاعدت همهماتنا جميعا .. وقلت أنا بحنق : 

."ولماذا أصلا شككتِ بهذا بدون أي تحليل أو فحص ؟ لما لا يكون السبب أي مرض آخر ؟ أمراض القلب أيضا تسبب تورم الأقدام .. وهناك دستة من الأمراض تسبب سقوط الشعر !" 

."حين دخلت الغرفة الآن .. عثرت على شيء طريف متعلق بخزانة النقود .. تعالوا معي" 

مشى الفريق كله خلفها .. و دخلنا الحجرة .. 

أشارت هند إلى لوحة معلقة على الحائط أمام الخزنة .. وهي تقول ببرود : 

."لتصبح ضابطأ ناجحاً يا صغيري .. يجب أن تتعلم دائما أن تنظر وراء ما أمامك .. حرفياً" 

صغيري ؟؟ هل قالت صغيري ؟؟؟ إنني أكبر منها بعدة أعوام !!! 

لماذا لا يستطيع أحد أن يرد على إهانات هذه المعتوهة ؟؟؟ 

."إذا نزعنا هذه اللوحة .. سنرى شيئا لطيفا" 

قرنت قولها بالفعل .. ومدت يدها لتنزع اللوحة .. فهتف أحد رجال الفحص الجنائي معترضأ : 

." البصمات يا فتاة !! " 

. "أصمت يا عبيط .. " 

احتقن وجه الرجل غضبًا .. لكنه كالعادة عجز عن الرد !!!! 

نزعت "هند" اللوحة .. فظهر مرسومة على الحائط خلفها دائرة غريبة مكونة من مجموعة من النقاط 

والشرطات .. وفوق إحدى النقاط سهم صغير ! 

ما معناها ؟؟ 

."إذا نظر أي غريب لهذا الرسم .. سيظن أنه مجرد شخبطة من عجوز مجنون ... لكن مادامت أمامنا جثة .. فيجب أن نتوقف أمامها قليلا .. 

لدينا عجوز يحتفظ - حسب كلام أبناءه - بكل أمواله في خزانة تقليدية .. لكن لنفترض أنه ينسى كثيرا .. ولا يريد أن يفاجأ يوما أنه لا يستطيع الوصول لأمواله ... إذن يجب أن يكتب الأرقام السرية في مكان قريب من الخزنة .. لكن بطريقة لا ينتبه لها أحد .." 

قلت بذهول : 

."نقاط وشرطات .. شفرة موريس !!" 

."أوووه .. الطفل الصغير يتعلم بسرعة ! نعم .. لقد اختار أشهر الشفرات .. شفرة موريس .. التي تحول الأرقام والحروف إلى تنويعات من النقطة والشرطة .. 

وحتى لا تكون واضحة حتى لو رآها أحد .. يرسمها على شكل دائرة متداخلة من النقاط والشرطات .. لكنه يضع سهمًا صغيرًا ليعرف بداية الرقم السري ! .. وأيضا من المعروف أن كل رقم في شفرة موريس يتكون من خمس علامات .. فالصفر يتم التعبير عنه بخمس شرطات .. والواحد بنقطة وأربع شرطات .. والاثنين بنقطتين وثلاث شرطات .. إلخ ... لحسن الحظ أني أحفظ شفرة موريس عن ظهر قلب .. دعنا نجرب !" 

وأمام أعيننا المبهورة اتجهت نحو الخزانة .. وأدارت قرص الأرقام وهي تنظر نحو الرسم وتهمس .. 

."9 .. 5..7.. 5.. 4 .. و .. ممممممم" 

انفتحت الخزانة !! 

نظرنا جميعا إلى الخزانة الخاوية .. وقلت بذهول : 

."إذن هي جريمة !! جريمة سرقة وقتل بالسم !! وكنا سنغلق القضية لعدم وجود شبهة جنائية !" 

وصاح الطبيب الشرعي : 

."لكن من فعلها ؟" 

كدت أتهمه بالغباء لهذا السؤال .. كيف ستعرف "هند" اسم القاتل ؟ إنها تحلل الأدلة ونحن سنبحث و .. 

."الدكتور أحمد السلاب" 

قاطعت "هند" أفكاري بهذا الاسم بمنتهى البساطة .. هل تسخر منا ؟ هل هي على علاقة بالشياطين ؟ من أين عرفت الاسم ؟؟! 

."الأمر بسيط يا سادة .. أنظروا إلى رف الأدوية .. كلها أدوية قلب .. هذا معناه أن الراحل كان مخدوعًا مثلكم .. وظن أنه أصيب بمرض القلب .. 

إن "الزرنيخ" سم غريب .. وهم يسمونه "مسحوق الميراث" لأسباب واضحة .. فهو طريقة قتل نظيفة إذا كنت تريد أن تعجل بموت أحد لترثه سريعاً .. ولا طعم له ولا رائحة .. ويمكنك أن تدسه له بكميات صغيرة لعدة أعوام دون أن يشعر ... وهكذا يجد الضحية نفسه مريضاً منهكاً ... وتتورم قدماه ويسقط شعره .. 

ويصاب بإسهال مرعب كأنه أصيب بالكوليرا ... و يموت تدريجياً .. والجمبل أن القاتل يبتعد تماماً عنه .. 

وقد يسافر إلى دولة أخرى حتى يبعد عنه أي شبهات .. ويموت الضحية وهو يشك في أي مرض في العالم .. إلا التسمم !! 

خاصة إذا لم يخطر ببال طبيب أحمق أن يقوم بتحليل للتسمم .. فقد يتم تشخيصه أنه مريض بالقلب أو كوليرا أو سرطان معدة .. من أكثر شخص يعرف هذه المعلومات ؟ طبيب طبعاً !! " 

-"لكن لماذا أحمد السلاب هذا ؟ أٌين وجدتِ الاسم أصلاً ؟" مدت "هند" يدها في جيبها والتقطت "روشتة" طبيب مطبوعة .. 

-"هذه مكتوب عليها اسمه و رقم هاتفه .. واضح أنه طبيبه الخاص منذ أعوام.. هو من وصف للعجوز أدوية القلب .. كان يريد التغطية على فعلته .. ويتظاهر أنه يعالجه .. لكنه قتله ببطء ليستولي على ماله .. " 

قلت معترضاً : 

-"ولماذا لا يكون مجرد طبيب أحمق آخر لم يعرف التشخيص ؟ الحماقة جريمة .. لكنها ليست كالقتل ! 

هرشت شعرها المنكوش وتلاعبت على ثغرها ابتسامة ساخرة وقالت : 

-"من في رأٌيك يستطيع الدخول لغرفة نوم العجوز والتفتيش فيها دون إثارة الشكوك حتى يصل إلى سر رقم الخزنة .. سوى طبيبه ؟ إنه وحيد بلا زوجة ولا أبناء ولا أصدقاء .." 

-" هذا ليس دليلا أكيدًا .." 

- "الرجل لا يزوره أحد إلا أخت عجوز .. وهذه لا تحتاج لسرقة الخزنة .. فكل ممتلكاته ستكون ميراثها بعد وفاته بشكل رسمي ... ولا يوجد لص سيقتحم منزل رجل ليقتله بسم بطيء كالزرنيخ ! .. اقبضوا على الطبيب .. حققوا معه .. وضيقوا عليه الخناق .. وسيعترف حتماً .. وأراهنك أنه يمر بضائقة مالية مزمنة ... " 

نظرنا إلى بعضنا .. إنها عبقرية ... لا ينكر هذا إلا أحمق أو جاحد .. 

لقد حولت حالة وفاة عادية إلى جريمة قتل مكتملة الأركان !! 

بقي فقط أن نلقي القبض على "أحمد السلاب" ... لكن ليس هذا مكسبي من هذه القضية .. 

لقد تعرفت على إنسانة ستغير مجرى حياتي يومًا !! 

لكن هذه قصة أخرى ! 



1 comment: