Friday, January 10, 2020

الوجه في المرآة



الوجه في المرآة .. 

منذ نحو 12 عامًا قابلت ذلك الرجل في محطة الترام .. 

أشيب وقور هو .. يرتدي معطفًا أنيقًا .. كان اسمه "حسين شكري" أو "محسن الشنكحاوي" أو "حسنين الشوربجي" .. شيء من هذا القبيل .. 

لا أذكر السبب الذي دفعه للكلام معي .. لكنه حكى قصة طويلة حزينة عن إنجازاته العلمية التي تفوق إنجازات "أحمد زويل" .. 

عن أبحاثه الرائعة وتجاربه العلمية المميزة التي كانت لتنقل مصر إلى مصاف الدول العظمى وتضعها على أول طريق النهضة الصحراوي ! 

عن عروض الجنسيات الأجنبية التي انهالت عليه .. وعروض مؤسسات عالمية لشراء أبحاثه .. 

طبعًا أنت استنتجت النهاية .. بما أنه يجلس جوار طالب في انتظار الترام .. وليس بداخل سيارته المرسيدس ! 

طبعًا لم تهتم به الدولة به .. وألقته في وظيفة حكومية حمضانة .. وأبحاثه تم إلقاؤها في الأدراج إلخ إلخ .. 

هذه هي نهاية هذا النوع من القصص دائمًا على أية حال .. 

كنت شابًا ساذجًا حينها .. فتأثرت كثيرًا بقصته .. وأذكر أني كتبت قصة حزينة مؤثرة عن هذا الموقف .. وأنهيتها بصرخة للدولة أنها يجب أن تحتضن أبنائها من العلماء و .. و .. 

لكن بعد مرور كل هذه الأعوام .. تذكرت السيد "حسين / محسن / حسنين" .. وفكرت أن هذا الرجل حتمًا كان يعبث بي .. وأنه غالبًا يحمل دكتوراه ما من جامعة مصرية تقليدية غير معترف بها في أي دولة أخرى .. مثله مثل آلاف وربما ملايين المصريين .. 

حتماً كانت رسالة الدكتوراه تحوي شيئًا جديدًا .. لكن كل طلبة الدكتوراه مطالبون بالجديد .. وهذا لا يجعلهم عباقرة لو كنت تفهم قصدي !! 

ربما كان مجرد موظف يحمل بكالوريوس من جامعة حمضانة .. وأراد أن يتسلى على الشاب الأبله ذو النظارات ! 

لكني الآن واثق أنه كان نصابًا بدرجة ما .. وأنه يبالغ في قدراته ويعطي نفسه أكبر من حجمها ! 

قطعت هذه الخواطر فكرة ما طرأت على بالي ! 

فمنذ 12 عامًا تأثرت جدًا بقصته .. والآن أنا واثق تمامًا أنه نصاب !! 

ترى .. ما التغيير الذي حدث في شخصيتي في هذه الأعوام .. لتتغير وجهة نظري على هذا النحو ؟ 

بدأت أفكر ... أي تغييرات أخرى عبثت في شخصيتي ؟ وما الذي تبقى من الفتى الذي كان في فجر شبابه داخل الشاب الذي يخطو نحو الثلاثين بخطوات قافزة ؟ 

نظرت في المرآة .. وفي رأسي تتردد رائعة "عبد الباسط حمودة" المعبرة تمامًا عن هذا الموقف (أبص لروحي فجأة) ! 

فهالني ما رأيت ! 

شعيرات بيضاء .. عينان مرهقتان كئيبتان لا تحملان أي لمحة من الحياة .. 

تجاعيد قاسية بين حاجبي .. تلك التي يسميها المصريون 111 "مية وحداشر" .. 

وماذا عن شخصيتي ؟ 

كنت دائمًا أتباهى أن شخصيتي لا تتغير .. وكل أصدقائي يؤكدون أني لم أتغير منذ عرفوني .. لكني اكتشفت أني مجرد أحمق آخر .. فعلت السنون أفاعيلها في روحه .. وضربت معاولها ولوادرها وبلدوزراتها في روحه !! 

اكتشفت أن مفاهيم عديدة تغيرت بداخلي .. 

كانت الصداقة بالنسبة لي معنى ساميًا مقدسًا .. يقوم على التوافق والجدعنة المتبادلة .. 

أما الآن فقد أصبحت تعني لي فقط أشخاصًا يجلسون معي على القهوة بدلًا من الجلوس وحدي كالكلب الأجرب يوميًا ! 

كان من المستحيل أن أترك أحدًا في أزمة .. قد يأتي أحدهم ليلة الامتحان مذعورًا ليخبرني أنه لا يفهم شيئًا في المادة .. فأرتدي ثيابي وأهرع إليه لأشرح له كل شيء محاولًا إنقاذه ! 

إذا عرفت أن أحدهم مكتئب أو يعاني أي مشكلة في حياته .. أظل معه وأتدخل محاولًا حل مشاكله مهما تعرضت لمواقف سخيفة .. 

أيام النشاط الثقافي كان دائمًا ما يواجه أعضاء الفريق مشاكل حياتية .. كنت أبهج المكتئبين .. وأتصل بآبائهم وأمهاتهم محاولًا فض أي اشتباك ! 

لا أقول هذا الكلام لأمدح نفسي .. فلو كنت أظن هذه الجدعنة المبالغ فيها أمر جيد لما كنت تكلمت عنها ! 

فالآن اكتشفت أني لم أكن جدع ولا حاجة .. بل كنت مجرد أحمق عاطفي ساذج .. 

كنت مجرد بكابورت قذر .. يلقي الجميع فيه كآبتهم وعقدهم النفسية ومشاكلهم ! 

وحين فاحت رائحتي كبكابورت مليء بالأحزان حتى طفح .. هرب الجميع مني وأصبحت وحيدًا يتحاشاه الجميع كالكلب المسعور !! 

أما الآن .. فقد تحولت إلى شخص يتبع مبدأ "خراب يا دنيا .. عمار يا دماغي" .. 

لا أهتم بأي مشكلة طالما لم تمسني بشكل مباشر .. 

لديك مشاكل ؟ كان الله في عونك .. حين تنتهي مشاكلك تعال لتجلس معي على القهوة .. 

أنت مكتئب ؟ شفاك الله يا حبيبي .. لا تتصل بي لأن اكتئابي يكفيني ولا ينقصك بصراحة .. 

أصبحت أكثر برودًا وجفافًا .. ولم أعد أتأثر بأي مشكلة تحدث لأي أحد .. كل ما يهمني ألا يفسد مزاجي بالحديث عن مشاكله طوال الوقت .. 

بمناسبة البرود .. 

في الماضي كنت انطوائيًا خجولًا .. حين أقابل شخصًا جديدًا قد أظل محرجًا ولا أنطق حرفًا حتى أرحل ! 

لم أكن أجيد التصرف .. كنت أغرق في شبر ماء كما يقولون .. 

كنت أخشى الاتصال بشخص لا يعرفني .. وأحمل هم تعريف نفسي له .. وأعتبره موقفًا سخيفًا لأقصى حد !! 

لازلت أذكر حين حضرت أول مناقشة كتاب في حياتي .. 

وقفت أمام باب المكتبة مرتبكًا .. وقلبي ينبض بقوة .. أخشى الدخول وأخجل من الحاضرين .. وفكرت في التراجع والهروب !! 

ولن أقول لك عن تعاملي مع الجنس اللطيف .. ياختييييييي ! 

أما الآن .. فقد فوجئت منذ فترة أن كل هذا قد اختفى !! 

حين أقابل شخصًا جديدًا أبدأ الكلام بالتمسية على فخاده ! 

اختفت الرهبة والخجل من داخلي تمامًا .. 

أصبحت أكثر جرأة في التعامل .. حتى أن أحد زملاء العمل قال لي مرة أن أفضل مميزاتي أني لا أخاف ولا أرتبك في المواقف الصعبة !! 

قارن هذا بالشاب الخجول الذي كاد يهرب من أمام المكتبة لخوفه من دخول مناقشة كتاب !! 

وماذا عن الموقف في أول المقال ؟ 

كنت في الماضي أتعامل بحسن نية .. وأعتبر من أمامي صادقًا أمينًا حتى إشعار آخر !! 

أما الآن فقد أصبحت وغدًا متشككًا .. أفترض أن من أتعامل معه وغد مثلي .. 

من يمدحني أعتبره منافقًا حتى يثبت العكس .. 

من يحكي لي موقفًا فهو كاذب حتى أرى بأم عيني دليلًا حيًا على صدقه .. 

من يتقرب مني فهو خازوق متنكر ينتظر اللحظة المناسبة لينقض علي ويخرج من نافوخي !! 

لكم تغيرت يا فتى !! 

كم غيرتك الأيام وحولتك من شاب طيب غرير ساذج .. إلى وغد خبيث نذل متشكك عديم الثقة في الآخرين ! 

حولتك من شخص عاطفي كبير القلب .. إلى شخص يعشق تكبير الدماغ !! 

من شخص يسعى لنيل ثقة وحب الآخرين .. إلى شخص لا يريد شيئًا من أحد .. ولا يمنح شيئًا لأحد !! 

انتهت هذه الأفكار السوداء مع انتهاء صراخ عبد الباسط حمودة عن الورود التي زرعها ولم يجن منها إلا الشوك .. وأنا واقف أمام المرآة كالأبله .. تأملت الوجه الكئيب في المرآة .. ولعنت "حسين / محسن / حسنين" الوغد الذي قلب علي المواجع بعد كل هذه الأعوام .. 

ارتديت ثيابي وخرجت إلى القهوة .. وتأكدت من إغلاق هاتفي حتى لا يتصل بي أحد .. ونزلت السلالم حتى لا أضطر للنظر في مرآة المصعد .. 

سلام ..


No comments:

Post a Comment