حياة قصيرة
قالت لي بضيق :
-"منذ أن رقيتك إلى منصب المدير أصبحت متعجرفًا .. وتنفجر في وجه من لا يعجبك بلا رحمة !"
نظرت لها بدهشة ثم انفجرت ضاحكًا ..
-"متعجرفًا ؟ أن مدير لستة أفراد فحسب .. في قطاع واحد من شركة لا يعرفها أحد أصلًا .. في مدينة بدولة من العالم الثالث لا يهتم أحد بها أساسًا .. لم أفكر حتى في التعجرف !"
"كل ما في الأمر أنك كأي إنسان آخر كنت تخشين أن يغيرني المنصب .. فصرت تفسرين أي تصرف مني من هذا المنطلق .. لو سألتني عن رأيي لقلت أني لا أريد منصبًا أو يحزنون .. كل ما أتمناه هو مبلغ شهري يكفي طعامي وسجائري وجلسات القهوة .. وأن يتركني الجميع في حالي !"
نظرت لي غير فاهمة .. وقالت بذهول :
-"لكن هذا خطأ ! أين طموحك ؟"
قلت بهدوء :
-"الحياة أقصر من هذا .. كلنا صراصير في بالوعة واحدة .. ما هو الإنجاز في الخروج منها وتسلق الحائط ؟ سأظل مجرد صرصور آخر .. وسأموت بالشبشب بدلًا من الشيخوخة !"
اعتدلت بصرامة وقالت بلهجة رسمية باردة :
-"حافظ على ألفاظك وأنت تكلمني !"
أدركت أنها لم تفهم من كلامي سوى أني شبهتها بالصراصير .. ففقدت الأمل وابتلعت لساني ..
***
عروس جديدة ..
محاولاتي للزواج تشبه كثيرًا محاولات "علا عبد الصبور" في مسلسل "عايزة أتجوز" .. وهذا يدلك أن عدم الزواج يسبب مشكلة مجتمعية للرجال أيضًا !
قالت لي :
ـ"ارتحت لك كثيرًا .. وجودك مريح لسبب لا أفهمه .. !"
لا أفهم لما يقلن جميعًا نفس الكلمة .. من ترتاح لشخص كئيب يدخن كمصانع الحديد والصلب وملامحه مزيج من "ماجد الكدواني" و "راسبوتين" هي حتمًا مجنونة !
ثم أنها تابعت كلامها :
-"قل لي .. ما هي طموحاتك ؟"
قلت ببساطة :
-"ليس لدي طموح بالمعنى المفهوم .. أنا أستيقظ صباحًا وأرى ما لدي اليوم .. ثم أنام وغدًا يوم جديد وانتهينا !"
قالت بذهول :
-"ليس لديك طموح ؟ لا هدف ترغب في تحقيقه ؟"
-"هدفي هو حياة بلا وجع دماغ .. عرفت عشرات الأشخاص المتحمسين ممن لهم طموح تغيير العالم والثراء والنجاح .. والآن هم أزواج بكرش ضخم وتحول طموحهم إلى أمنية بعرض جيد على أكياس البامبرز في كارفور .. نحن في زمن صعب .. ولم يعد الحماس كافيًا لتحقيق أي شيء .. أحمق من يقول أن استمرار السعي يعني حتمية الوصول .. ويضرب المثل بشخص مشهور ظل يسعى حتى تحقق حلمه .. ويتناسى أن هناك ملايين غيره عاشوا وماتوا دون أن يحققوا شيئًا بسعيهم .. أنا أراهم مجموعة من البلهاء .. يكافحون للوصول إلى راحة البال .. أنا الآن مرتاح البال وأنام نقي الضمير كالطفل .. لماذا أسعى لما هو لدي أصلًا !!"
نظرت لي غير فاهمة .. ثم قالت بابتسامة غبية :
-"إذا توقفت عن التدخين ستستطيع بسهولة توفير ثمن البامبرز .. دعك من حفاظك على صحتك !"
أشعلت سيجارة وصمت .. وأنا أفكر في حجة أقولها لنغادر وأعود للبيت ..
***
قال لي صديقي بضيق :
-"أتمنى أن أجد فرصة سفر للخارج .. هذا البلد صار مقيتًا .. ولن أحقق شيئًا هنا "
ضحكت وقلت :
-"خذها نصيحة من شخص جرب الغربة .. حياتك ستدمر .. كلما فكرت في أي شيء حتى لو كان شراء الملابس ستقول "لما أنزل مصر" .. وحين تأتي الإجازة ستقول "أنا هنا لفترة قصيرة .. حين أسافر سأفعل" .. ستتحول حياتك إلى أيام تعدها كالمساجين حتى تعود إلى بلادك .. ثم أيام تعدها بذعر خوفًا أن تنتهي الإجازة سريعًا .. وستكتشف مرور الأعوام من عمرك دون أن تشعر .. صدقني الحياة أقصر من هذا .. دعك من أنه لا شيء يستحق أن تبتعد عن أمك وأبيك .. أطال الله في عمرهما لكنك ستندم يومًا أنك تركتهما زمنًا كان من الأولى أن تستمتع بوجودهما !
ستقول أنك ترغب في العيش في بلاد متقدمة ؟ حتى لو سافرت .. سيظل شعورك ممضًا أن كل هذا التقدم والنظافة ليسا لك بل لسكان البلد .. وأنت مجرد ضيف هناك .. هل سترتاح مثلًا في بيت صديقك مهما كان فخمًا ؟ وهل ستشعر أنه بيتك مهما كان صديقك ودودًا ؟ مستحيل .. ستشتاق حتمًا إلى بيتك الذي تستطيع أن تمشي فيه بالفانلة والبوكسر بحرية .. وإذا سافرت ستذهل أن كل ما كنت تفعله هنا ومللت منه .. ستتحرق شوقًا إليه .. بداية من طبق الفول من العربة صباحًا وحتى المقهى الذي تجلس فيه كل يوم .. وسينغص حياتك البعد عن كل ما اعتدت عليه رغم أنك كنت قد مللت منه ..ولن تنعم بلحظة سعادة واحدة !"
صمت صديقي .. ثم قال بغيظ مكتوم :
-"الآن عرفت لماذا ابتعد الجميع عنك .. أنا شخصيًا أقاوم بصعوبة الآن تحطيم المقعد على رأسك"
آثرت السلامة وسكت .. وأكملت قهوتي بصمت وأنا أنظر له بحذر ..
💙💙
ReplyDelete