Friday, October 21, 2022

كيف قابلت أمك ؟


كيف قابلت أمك ؟

(طريقة القصة مقتبسة من المسلسل الكوميدي الرائع How I met your mother .. نعم أخذت نفس الاسم على سبيل الاستسهال)

***



عام 2040 :

تعرف يا بني أن والدك صار كبير السن .. وكقاعدة لابد أن تجلس أمامي لأحكي لك ذكرياتي .. وتحتم نفس القاعدة أن تشعر بالملل وأن القصة لا تهمك أساسًا .. لكنك ستتابع الاستماع على سبيل الأدب ..

لكن اليوم سأحكي لك قصة ملهمة .. كيف قابلت أمك ؟ وهي قصة مشوقة للغاية وحافلة بالتفاصيل ..

سابقًا في عام 2013 كنت شابًا مليئًا بالطموح .. والعالم لا يتسع لأحلامي من فرط اتساعها !

وفكرة الزواج تعتبر من المحظورات .. ولا أفكر فيها من الأساس ..

كنت غارقًا في الثقافة والسياسة .. وأحاول الاستقرار في الحياة العملية .

وبالمصادفة كنت أمر على مكتبة يملكها أحد أصدقائي ..

وقال لي بحماس أن هناك مركزًا اسمه (المركز المصري الانجليزي للكتاب) يرديون عمل ناديًا لمناقشة الكتب .. ويحتاجون شخصًا ينظمه أسبوعيًا .. وأنه لا يرى من هو أنسب مني ..

كانت هذه هي نقطة البداية ..

جهزت برفقة أحد أصدقائي كل شيء .. وذهبنا في يومنا الأول ..

كنا معًا نشبه الكائنات الفضائية ..

شخصان لا يفكران إلا في القراءة وكتابة المقالات والقصص ومتابعة الأوضاع السياسية ..

وكنت أنا شخصًا بلا تجارب عاطفية على الإطلاق ..

كان هذا هو الوضع حين ظهرت "جيلان" أول مرة !

سأحكي لك كيف رأيتها من وجهة نظري حينها ..

رائعة الجمال .. واثقة من نفسها .. ثيابها ملونة مبهجة .. تتحدث بود بطلاقة مع الجميع .. واسعة الثقافة .. تتحدث الإنجليزية بطلاقة .. لها ابتسامة ساحرة تكشف أسنانها بالكامل ..

رائعة أليس كذلك ؟

لكن نصيحتي لك يا بني ألا تنخدع بالانطباع الأول .. خاصة إذا كنت لا تزال "خام" بلا تجارب كما كنت حينها !

فبعد أقل من خمس سنوات من هذه الأحداث .. تصفحت صور ذلك اليوم من نادي الكتاب .. وأعدت النظر إليها بأعين خبيرة ..

فتاة ربع حسناء .. تظن نفسها فاتنة .. تضع طبقات من مساحيق التجميل حتى أنك إذا هززتها بقوة سيغطينا جميعًا هباب أبيض كثيف .. ولعلها شعرت أن كل هذا لا يكفي لتقريبها من مهرج السيرك .. فقررت استكماله بثياب بألوان فاقعة مؤذية للعين .. وتريد أن تثير الانتباه وتحاول حشر كلمة إنجليزية في كل جملة لتظهر أنها راقية و ...

***

ـ"أبي .. هل جيلان هو اسمها الحقيقي فعلًا ؟"

قلت ضاحكًا :

ـ"كلا بالطبع .. لا أريد أن ترفع علي قضية تخرب بيتي !"

***

ما علينا ..

المهم فتنتي "جيلان" تمامًا .. ولأنني بلا تجارب فقد اكتفيت برؤيتها أسبوعيًا في نادي الكتاب .. بل ودعوتها للانضمام إلى الفريق الثقافي الذي كنا نشكله ..

وزاد كلامنا معًا لـ"ترتيب العمل" .. وكنت أنا سعيدًا كقط في موسم التزاوج ..

حتى جاء اليوم الذي اعترفت لها فيه بمشاعري ..

وأصبت بالذهول حين صارحتني أن المشاعر متبادلة !

وأن ما منعها من الاعتراف لي من قبل أنها تكبرني بأربع سنوات ..

لكنك تعرف والدك حين يتحمس لشيء ما ..

أقنعتها كم أنا مناسب لها .. وأن فارق السن لا يشغلني في شيء وأن المهم هو الحب والتوافق و .. و ..

لا تضحك .. أخبرتك أني كنت غرًا ساذجًا .. مفلس يعمل في شركة حمضانة براتب 400 جنيه شهريًا .. ويظن أن المستقبل سيستقبله بالأحضان !!

عشت معها أيامًا رائعة .. كان ينغصها فقط بعض الأمور التافهة ..

مثل أنها رفضت تمامًا أن يعلم أي أحد بما بيننا !

وتأكيدها الدائم أن "طبعًا الناس كلها مش هتصدق إنك خطبت واحدة زيي" !

دعك طبعًا حين تركتني في مرة لأن "أنا كتيرة عليك أوي" ..

وكانت تؤكد دائمًا أن إفلاسي لا يضايقها .. وقد صدقت بالفعل .. فلم تعايرني بفقري سوى سبع أو ثمان مرات فقط ..

فهي غير مادية .. لكنها تتمنى السكن في كفر عبده وامتلاك سيارة .. وأن تتناول الإفطار يوميًا في مكان فاخر ..

وكانت تأخذ رأيي حين يتقدم لها عريس ما ..

كما ترى كلها أمور صغيرة .. وغير كافية لأقطع علاقتي بها ..

طبعًا كانت فترة عجيبة .. خاصة أني كنت مضطرًا لتغيير شخصيتي بالكامل لأرضيها ..

تحولت من شخص مثقف انطوائي غامض .. يتعامل مع الكتب أكثر من البشر .. إلى شخص اجتماعي يحضر الاحتفالات وأعياد الميلاد ..

واضطررت لقبول الانضمام إلى شلة من الشباب والبنات من حاضري الندوات والـ"إيفنتات" .. فقط لأني لا أتخيل أن تخرج معهم بدوني في وجود رجال آخرين .. وهي قد خيرتني بين الانضمام لهم أو عدم الاعتراض على وجودها معهم !!

وكان هذا يا بني أول تعامل لي مع هذا المجتمع العجيب ..

حيث من العادي أن تختفي عدة ساعات وتقول بعدها ببساطة "معلش أصل وليد عنده مشكلة مع خطيبته فاتصل بيا يحكيلي" ..

وكل من يحضر ندوة ننظمها .. أجده ليلًا صديقًا لها على الفيسبوك .. ويضع تعليقات خفيفة الدم على بوستاتها وصورها .. لألعب أنا دور "أحمد حلمي" في فيلم الناظر "أنا عاطف كنت معاكم في نفس الندوة" !!

وتخيل أن أكون معها لنقابل صدفة "واحد صاحبها" !

بل وفي مرة في إحدى الندوات التي كنا ننظمها .. فوجئت بأغنية عيد ميلاد تعلو في المكتبة التي نجلس فيها ..

ووجدت الجارسون ـ النادل حتى لا يخرب مدرسوا العربية بيتي ـ يأتي بصينية عليها قطعتان من الـ"سينابون" .. وأحد الأوغاد ممن يسبسون شعرهم يأتي بابتسامة لزجة ليقول لجيلان :

ـ"كل سنة وانتي طيبة .. أنا قلت أحتفل بعيد ميلادك"

هنا ارتفع ضغطي .. ومادت بي الأرض خاصة حين وجدتها تبتسم بخجل وتشكره !

حينها تركت المكان كله وعدت إلى البيت غير مستوعب ما أتحول إليه بسبب هذه الفتاة !!

وحتى الآن لا أفهم هؤلاء البشر .. هل هناك فعلًا من يقبل بهذا ويبتسم كأن شيئًا لم يكن ؟

هكذا ظللت أخزن كل هذا .. وأكتم في نفسي لأني لا أتقبل خسارتها ..

بل وتقدمت لخطبتها بالفعل .. وحدث ما هو واضح لكل ذي أعين ..

رفضني والدها بسبب الماديات .. وبصراحة أحترم هذا الرجل الآن لالتزامه بضبط النفس ..

تخيل أن ترفض ابنته كل العرسان وارد الخليج الذين تقدموا لها .. ليأتي الشاب الأحمق الذي لا يملك شيئًا ويؤكد له أن "إن شاء الله ربنا هيكرم" .. وراتبه لا يكفي لفتح علبة جبن فضلًا عن فتح بيت !!

لكن على أية حال يا بني فقد استعاد والدك رجولته حينها .. ووقفت وسط ذلك المجتمع القذر في آخر ندوة أحضرها وشتمتهم واحدًا تلو الآخر ..

وقفو ضدي جميعًا وهي ضمنهم طبعًا .. لكن هذا لم يمنع إفراغي لكل شحنة العفونة من داخلي !

كنت أشتعل غضبًا .. وقد قررت تحطيم كل شيء كما فعل "أشرف عبد الباقي" في فيلم "خالي من الكولسترول" .. وحتى الآن أحتفل سنويًا بذكرى ذلك اليوم الذي سميته "عيد الغضب" !

طبعًا انتهت علاقتي بجيلان حينها ..وتزوجت هي بعدها بأشهر من واحد من الشلة إياها من الذين (عادي احنا زمايل وبنتكلم ومايقدرش يعدي حدوده معايا) .. واللطيف أنه نشر صورة يومًا تجمعهما في إحدى الندوات معلقًا (صورة من أول يوم اتقابلنا) .. عادي طبعًا لولا ملحوظة واحدة .. أني كنت واقفًا جوارها في نفس الصورة !!

وهكذا يا بني أنقذني والد جيلان ـ بارك الله فيه ـ من التحول إلى لامؤاخذة "خرونج" !

وهذه هي قصة أول تجربة عاطفية لي ..

***

عام 2040 :

ـ "آآ .. أبي هل اقتربنا من اللحظة التي قابلت فيها أمي ؟ هل كانت بعدها مباشرة؟"

-"لا طبعًا .. لقد قابلت أمك بعد عيد الغضب بسبع سنوات كاملة !"

ـ"قلت لي من قبل أنك خطبت قبل أمي مرتين .. ومررت بتسعة مشاريع خطوبة أخرى ؟"

-"نعم .. وهذه بالكاد القصة الأولى .. لا تستعجل !"

ونظرت له بشماتة وأنا ألمح نظرات الضيق والملل في عينيه ..


نهاية الجزء الأول



Friday, October 14, 2022

علمني الهيافة



علمني الهيافة

قال لي ناصحًا :

-"أنت بحاجة لبعض الجدية .. لاحظت أنك كثير المزاح .. وهذا يجعلك شخصًا خفيفًا .. بل وقد يراك الجميع تافهًا .. حاول توسيع مداركك وثقافتك .. لما لا تجرب القراءة ؟"

كتمت ضحكاتي بصعوبة .. لكن هذا لم يمنع شعوري براحة عظيمة ..

إذن فقد نجحت أخيرًا !

خرجت من ثوب المثقف المعقد .. وارتديت ثوب مهرج السيرك زاهي الألوان !

تذكرت لقاءاتي على التلفزيون أيام النشاط الثقافي التي حين أشاهدها الآن أضحك من قلبي ..

من هذا الشخص الذي يتكلم ؟ وما هذا الكلام الكبير ؟ هل حقًا كان هذا تفكيري ؟

أحلام كبيرة .. وكلام معقد عن رفع مستوى الوعي عند الشعب .. كأني أسمع "جان جاك روسو" !

أذكر أني يومًا سهرت أقرأ كتابًا معقدًا من 600 صفحة اسمه "تاريخ المغول العظماء والإليخانيين" .. لأني كنت متحمسًا لمعرفة أين اختفى المغول بعد موقعة "عين جالوت" ؟

خاصة أن منهج التاريخ بالمدرسة اكتفى بـ"اضطر هولاكو للعودة بمعظم الجيش إلى بلاده تاركًا البقية بقيادة كتبغا" .. فانتصر سيف الدين قطز .. لكن أين ذهب هولاكو المرعب بعدها ؟

كيف لجيش اجتاح العالم تقريبًا أن يختفي فجأة بعد هزيمة في معركة واحدة ؟ يا رجل إذا انهزم بلطجي في الشارع عندنا .. يأتي رفاقه حاملين السنج والمطاوي وزجاجات ماء النار لينتزعوا حق "حمو" من الأوغاد الذين "علموا عليه" !

نعم .. كانت هذه نوعية سهراتي ..

أقرأ من الكتب أعقدها .. وأشاهد من الأفلام والوثائقيات أكثرها فلسفة !

كنا نرتب ندوات تاريخية .. عن الثورة الإيرانية .. عن حرب البوسنة والهرسك .. ونظل بحماس نقرأ كل شيء عن هذه المواضيع العجيبة للتحضير للندوة ..

تخيل أن مكان عملي في وقتها كان يبعد نحو 90 كيلومترًا عن المدينة .. ويوم الندوة أخطف نفسي سريعًا لأذهب لتنظيمها ثم أعود ليلًا للعمل !

وفي مرة كنا نريد طباعة مجلة تحوي أعمالنا ..

وكعب داير كل يوم لنحاول بيع الإعلانات لتغطية تكاليف الطباعة .. وتآكلت كراسي السايبرات من فرط جلوسنا محاولين عمل تصميم المجلة بلا أي خبرات سابقة .. ولم يكن أحدنا يملك "لاب توب" أصلًا !

وتعرضنا للنصب من مطبعة لأتشاجر مع صاحبها وأحطم المكان على رأسه .. ونضطر بعدها تخفيضًا للنفقات أن نطبع المجلة كصفحات منفصلة بلا تجميع .. واشترينا "دباسة" خاصة .. ويوميًا نجمع النسخ بأنفسنا .. ألف نسخة .. ظل صوت الدباسة يرن في رأسي فترة طويلة بعدها !

هل انتهينا ؟ لا طبعًا .. ظللنا ندور لتوزيعها بأنفسنا !

أي أن 3 أفراد قاموا بعمل إدارات كاملة .. من الكتابة والتسويق والتصميم والطباعة والتوزيع !

لك أن تتخيل أن كل ما سبق كان بلا دعم تقريبًا .. لا مادي ولا معنوي ..

أهلنا كانوا يرون كل هذا "كلام فارغ" بلا مستقبل .. ويضيع أموالنا ..

أصدقاؤنا كانوا في الأغلب يسخرون منا .. ويعاملوننا ككائنات فضائية لا أحد يفهمها .. تعرف ذلك الشاب ذو النظارة السميكة في الأفلام الأجنبية ؟ المثقف أو العالم الذي يتعرض دائمًا للتنمر ويطلقون عليه "Nerd" ؟ هذا كان أنا بلا فخر !

كان هذا حتى توقفت ذات يوم حين اقترب سن الثلاثين ونظرت خلفي ..

وجدت أن الجميع قد عاش شبابه .. من طلعات الساحل إلى التجارب العاطفية إلى السهرات الصباحي في لعب الاستميشن – لم ألعبها أبدًا – ثم الاستقرار والخطوبة والزواج .. ونما له كرش لا بأس به يربت عليه راضيًا عن حياته ..

أما أنا فقد قضيت حياتي أشكل كيانات ثقافية وأقرأ كتبًا معقدة .. وأتعامل مع بشر متحذلقين لا يتكلمون كالبشر الطبيعيين .. ويحيلون كل شيء إلى معضلة ثقافية فلسفية .. الواحد منهم حين يريد تلبية نداء الطبيعة لا يقول ببساطة "أريد دخول الحمام" .. بل يقول "شلالات الملح ستغرق الأنهار السرمدية " !

أذكر أن أحد الأدباء الكبار جدًا .. تواصلت معه بصعوبة لأحاول إقناعه أن ننظم له محاضرة .. وبعد الاتفاق سألته عن عنوان وموضوع المحاضرة لأبدأ الدعاية .. قال لي بالحرف "شوفوا انتوا عايزين إيه مش فارقة" .. فوضعت عنوانًا مطاطًا هو "مفهوم التطور الحضاري" .. وجاء الرجل وظل ساعتين يرطن دون أن أفهم منه حرفًا .. ولم أسمع كلمة "تطور" أو "حضارة" طوال المحاضرة !

حتى في الارتباط .. كانت لدي تجربتا خطوبة من نفس الوسط المثقف المعقد .. وتخلت كلتاهما عني لأسباب لم أفهمها حتى الآن .. مثقفين بقى !!

أي فترة شباب سخيفة هذه ؟

لم أستفد منها شيئًا .. ماديًا كنت أنفق أموالي على هذه السخافات .. معنويًا لم أحصد سوى مجموعة رائعة من العقد النفسية .. إذا عاد "فرويد" إلى الحياة ورآها لمات فرحًا من جديد !!

كما استفدت من بقية أعداد المجلة إياها .. من الواضح أن المطبعة الأخرى كانت جيدة .. فالورق يمتص زيت البطاطس جيدًا ..ويمسح الزجاج بكفاءة ..

لذا فقد رفعت شعار الهيافة !

أقضي سهراتي في التدخين بالمقهى .. أو مشاهدة فيلم خفيف .. أو متابعة مشروعي الطموح في مشاهدة مسلسلات سبيس تون القديمة لكن بنسخها اليابانية الأصلية غير الممنتجة ..

قطعت علاقتي بكل المثقفين المتحذلقين ذوي الأنهار السرمدية .. ووطدت علاقتي بكل من هو فرفوش ..

لم أعد أشغل بالي بأي شيء يتطلب أكثر من 5 دقائق من التفكير .. ولا أهتم بأي حدث سياسي أو عالمي .. طالما أنه بعيد عن غرفتي وعن القهوة التي أقضي فيها وقتي ..

وأضحك حين أتذكر شغفي بمصير المغول .. فليذهبوا إلى الجحيم وأنا مالي !!!

تحولت الحياة بالنسبة لي إلى نكتة طويلة .. حين يكلمني أحدهم أركز على استخراج "الإفيه" من كلامه ..

لا آخذ أي شيء على محمل الجد .. فقد استهلكت كل جديتي من عام 2008 إلى عام 2018 .. ولم يعد في خزائني سوى أكوام من التفاهة ..

لذا فلتحيا التفاهة 3 مرات ..

والمجد للهيافة ولا شيء إلا الهيافة ..




Friday, October 7, 2022

حكايات تافهة



حكايات تافهة

هذا المقال سخيف ومضيع للوقت ..

لا تستغرب .. فقد أكدت لك مرارًا أني شخص هايف قمة الهيافة .. اكتفيت من لعب دور الشخص المهم بعدما فعلت كل شيء ..

اندمجت في النشاط السياسي والثقافي حتى الثمالة .. ظهرت في برامج تلفزيونية عديدة .. بل حتى الإذاعة التي لم يعد لها مستمعون ظهرت فيها عدة مرات ..

هذا يذكرني بحكاية تافهة ..

كنت يومًا في عملي .. وباعتباري مثالًا للكحرتة .. فقد كان موقع العمل إنشاءات في مكان ناءِ خاليا من الخدمات .. وهنا شعرت برغبة عارمة في تلبية نداء الطبيعة ..

تعرف ذلك الشعور ؟ مثانتك تكاد تنفجر .. يتحول العالم إلى شلال مائي منهمر .. مملكتي مقابل حمام !

بحثت بجنون بحث قيس عن ليلى .. حتى وجدته !

ياللراحة .. أظن أن كريستوفر كولومبس ذاته لم يشعر بهذه الراحة حين اكتشف أمريكا وهو ـ الأحمق ـ يظن أنه وصل للهند !!

دخلت الباب سريعًا حين رن هاتفي !

نظرت سريعًا لأجد أنه رقم أرضي قاهري .. رددت بعجالة وأنا بالفعل بدأت الاستعداد لاختبار كفاءة نظام الصرف الصحي في المكان ..

لأجد شخصًا مستعجلًا أكثر مني – لعله مزنوق هو الآخر ؟ ـ يقول بسرعة :

-"السيد حسام معي ؟ ستنضم حالًا في مداخلة بالبرنامج الصباحي بإذاعة القاهرة ."

ودون أن ينتظر ردًا حولني على الفور لأجد مذيعة متأنتكة تقول بوقار "ومعنا الآن المهندس حسام صادق ليحدثنا عن الحراك الثقافي بالإسكندرية" .

هنا ضربت بيدي على رأسي ..

مثانتي اتخذت وضع الاستعداد .. ولا توجد قوة بالعالم تستطيع إقناعها بالصبر !

ولم يكن هناك سوى حل واحد .. ولنشكر شركات المحمول بمصر على رداءة جودة الصوت !

بدأت تلبية نداء الطبيعة بهدوء وأنا أجيب أسئلة المذيعة بمنتهى الحنكة والوقار .. وقد ساعدتني راحة الشلالات المنهمرة على الإجابات .. ألا يسمونه "بيت الراحة" ؟

وأنهيت اللقاء مسجلًا أول حالة ـ لامؤاخذة ـ تفريغ مثانة على الهواء مباشرة في التاريخ الإعلامي !

ذكريات تافهة تليق بي بالفعل ..

العجيب في ذكرياتي أنها متنوعة للغاية ..

نمت مرتين على "البورش" في الزنزانة .. كما نمت في أفخم الفنادق .. ونمت في سيارة نقل معطلة فوق الجبال وسط الغابات في مالاوي بقلب إفريقيا !

مالاوي وحدها لها قصص تحتاج كتابًا كاملًا لحكايتها ..

خذ عندك مثلًا في بدايات وجودي هناك ..

كان عملي مقتصرًا على الإنشاءات التنموية هناك .. مساجد ..مدارس .. دور أيتام .. إلخ ..

ذهبت لمتابعة الأعمال في عدة إنشاءات كان من قبلي قد بدأها ..

دخلت قرية ننشئ فيها مسجدًا واسعًا .. وكان في مرحلة الأساسات ..

كنت قد اعتدت نسبيًا على تجمهر الأهالي الأفارقة حولنا .. وصراخ الأطفال "آلويا .. آلويا"

لكن هذه القرية بالذات كان أهلها متجهمين .. واستقبلونا بوجوه عابسة ..

لم أهتم كثيرًا .. وبدأت عملي أولًا بتثبيت لافتة تحمل اسم المشروع بمساعدة أحد العمال ..

حين سمعت فجأة صراخًا رهيبًا .. وترك العامل ما في يده وفر هاربًا !!

حين نظرت وجدت الأهالي مجتمعين حول "موسى لولي" المترجم المحلي الذي لا يفارقني .. وينهالون عليه ضربًا !

هرعت مسرعًا أسحب الفتى المالاوي المسكين من وسطهم .. ووضعته خلف ظهري ..

هنا أخرج الأهالي سيوفهم .. تلك السيوف القصيرة التي يقطعون بها فروع الأشجار ويسميها البلطجية عندنا "الماشيتا" .. وحلت العدوانية والشراسة محل العبوس في ملامحهم ..

هنا أدركت أنها النهاية .. من العسير طبعًا أن أجد من ينقذني في قرية "شيلونجا – 2" بقلب الغابات المالاوية .. حتى لو افترضنا وجود أحد قريب ففي الأغلب سيذهب لقرية "شيلونجا – 1" .. حتى السكان المحليون يخلطون بينهما !

اتخذت وقفة قتالية عظيمة تشبه وضعية "جوكو" في مسلسل "دراجون بول" .. وكنت أرتدي حذاء سيفتي ذو مقدمة معدنية .. وقررت قبل أن أموت أن أسبب عاهة مستديمة لواحد أو اثنين منهم .. فلنمت كالرجال والويل لمن يصرخ أولًا !

وهنا حدثت المعجزة ..

ظهرت نساء القرية فجأة .. والنساء هناك أقوياء جسديًا .. يملأن الماء في جرار ضخمة من النهر يوميًا .. ويحملن أطفالهن في إزار قماشي حول وسطهن طوال اليوم .. كما ترى هذا "جيم" كامل يدرب عضلاتهن كلها !

المهم انقضت النساء على الرجال وأمسكن بهم بقبضة حديدية .. فاتحين لنا ثغرة للفرار ..

وبالفعل سحبت "موسى" الذي تحول إلى عجين من العلقة الساخنة التي تلقاها .. وقفزنا في صندوق السيارة وصرخت في السائق أن ينطلق فورًا !

سألت موسى لاهثًا عن سبب تلك العدوانية .. فقال لي متألمًا :

-"القرية كلها مسيحيون .. ليس هناك مسلم واحد!"

استغرقت لحظة للاستيعاب ثم انفجرت ضاحكًا ..

تخيل قرية مسيحية تعاني أشد أنواع الفقر .. وحين تأتي المساعدة تكون ببناء مسجد ضخم !

الأحمق الذي كان مسئولًا قبلي لم يتحرى قبل أن يختار القرية لبناء المسجد !

كانت رحلتي هناك ثرية جدًا بالتفاصيل .. ولن يكفي مقال واحد لحكايتها مهما اختصرت ..

هل حكيت لك من قبل محاولتي للانتحار ؟

كان هذا بعد عودتي من مالاوي مباشرة ..

كنت في حالة اكتئاب حاد .. تخلى عني الجميع بسببها ..

كان هناك كابوس يطاردني بشكل شبه يومي .. أقف داخل مبنى وفجأة يظهر الشيطان أمامي ويبدأ بهدم المبنى فوق رأسي !

تخيل نفسية شخص يقتله الشيطان يوميًا !

حاولت مع طبيب نفسي شخص حالتي بالاكتئاب ـ وحياة أمه ؟ ـ وأعطاني دواءً لعينًا كان يجعلني أنام 20 ساعة يوميًا !

هكذا كنت أستيقظ ساعة ألعن فيها سنسفيل الطبيب ثم أعود للنوم .. طبعًا توقفت عن تناوله لأن هذا الدلع غير متاح لشخص يعمل 10 ساعات على الأقل يوميًا !

وهكذا استيقظت قبل الفجر يومًا ما .. وكتبت خطاب انتحار رائعًا .. وحرصت على تحسين خطي .. تخيل أن أترك آخر كلماتي ويعجز الجميع عن قرائتها بسبب سوء الخط !!

مشيت حتى وصلت إلى البحر .. ووقفت فوق "بلوك" حماية الشاطئ .. فكرت حينها أنه كان من الأسهل أن أقفز من سطح العمارة .. لما المشي والفرهدة ؟!

المهم وقفت للحظات .. ثم أدركت فجأة سخف الموقف .. وشعرت فجأة أني بطل فيلم رومانسي هايف تخلت عنه حبيبته ..

أتيحت لي الفرصة لأرى قبح الحياة .. وتمرمغت في قاذورات الدنيا بأشكالها .. إذن هل بعدما فهمت دناءة الدنيا وصرت خبيرًا في قذارتها .. أتركها لأذهب للمجهول ؟

وهكذا بدأت مشوارًا طويلًا للعودة إلى البيت ـ حقًا .. ما مشكلة سطح العمارة ؟ ـ ومزقت خطاب الانتحار .. وانفجرت ضاحكًا ونمت منتظرًا ظهور الشيطان وقد قررت أن أركله بين ساقيه هذه المرة قبل أن يهدم المبنى ..