علمني الهيافة
قال لي ناصحًا :
-"أنت بحاجة لبعض الجدية .. لاحظت أنك كثير المزاح .. وهذا يجعلك شخصًا خفيفًا .. بل وقد يراك الجميع تافهًا .. حاول توسيع مداركك وثقافتك .. لما لا تجرب القراءة ؟"
كتمت ضحكاتي بصعوبة .. لكن هذا لم يمنع شعوري براحة عظيمة ..
إذن فقد نجحت أخيرًا !
خرجت من ثوب المثقف المعقد .. وارتديت ثوب مهرج السيرك زاهي الألوان !
تذكرت لقاءاتي على التلفزيون أيام النشاط الثقافي التي حين أشاهدها الآن أضحك من قلبي ..
من هذا الشخص الذي يتكلم ؟ وما هذا الكلام الكبير ؟ هل حقًا كان هذا تفكيري ؟
أحلام كبيرة .. وكلام معقد عن رفع مستوى الوعي عند الشعب .. كأني أسمع "جان جاك روسو" !
أذكر أني يومًا سهرت أقرأ كتابًا معقدًا من 600 صفحة اسمه "تاريخ المغول العظماء والإليخانيين" .. لأني كنت متحمسًا لمعرفة أين اختفى المغول بعد موقعة "عين جالوت" ؟
خاصة أن منهج التاريخ بالمدرسة اكتفى بـ"اضطر هولاكو للعودة بمعظم الجيش إلى بلاده تاركًا البقية بقيادة كتبغا" .. فانتصر سيف الدين قطز .. لكن أين ذهب هولاكو المرعب بعدها ؟
كيف لجيش اجتاح العالم تقريبًا أن يختفي فجأة بعد هزيمة في معركة واحدة ؟ يا رجل إذا انهزم بلطجي في الشارع عندنا .. يأتي رفاقه حاملين السنج والمطاوي وزجاجات ماء النار لينتزعوا حق "حمو" من الأوغاد الذين "علموا عليه" !
نعم .. كانت هذه نوعية سهراتي ..
أقرأ من الكتب أعقدها .. وأشاهد من الأفلام والوثائقيات أكثرها فلسفة !
كنا نرتب ندوات تاريخية .. عن الثورة الإيرانية .. عن حرب البوسنة والهرسك .. ونظل بحماس نقرأ كل شيء عن هذه المواضيع العجيبة للتحضير للندوة ..
تخيل أن مكان عملي في وقتها كان يبعد نحو 90 كيلومترًا عن المدينة .. ويوم الندوة أخطف نفسي سريعًا لأذهب لتنظيمها ثم أعود ليلًا للعمل !
وفي مرة كنا نريد طباعة مجلة تحوي أعمالنا ..
وكعب داير كل يوم لنحاول بيع الإعلانات لتغطية تكاليف الطباعة .. وتآكلت كراسي السايبرات من فرط جلوسنا محاولين عمل تصميم المجلة بلا أي خبرات سابقة .. ولم يكن أحدنا يملك "لاب توب" أصلًا !
وتعرضنا للنصب من مطبعة لأتشاجر مع صاحبها وأحطم المكان على رأسه .. ونضطر بعدها تخفيضًا للنفقات أن نطبع المجلة كصفحات منفصلة بلا تجميع .. واشترينا "دباسة" خاصة .. ويوميًا نجمع النسخ بأنفسنا .. ألف نسخة .. ظل صوت الدباسة يرن في رأسي فترة طويلة بعدها !
هل انتهينا ؟ لا طبعًا .. ظللنا ندور لتوزيعها بأنفسنا !
أي أن 3 أفراد قاموا بعمل إدارات كاملة .. من الكتابة والتسويق والتصميم والطباعة والتوزيع !
لك أن تتخيل أن كل ما سبق كان بلا دعم تقريبًا .. لا مادي ولا معنوي ..
أهلنا كانوا يرون كل هذا "كلام فارغ" بلا مستقبل .. ويضيع أموالنا ..
أصدقاؤنا كانوا في الأغلب يسخرون منا .. ويعاملوننا ككائنات فضائية لا أحد يفهمها .. تعرف ذلك الشاب ذو النظارة السميكة في الأفلام الأجنبية ؟ المثقف أو العالم الذي يتعرض دائمًا للتنمر ويطلقون عليه "Nerd" ؟ هذا كان أنا بلا فخر !
كان هذا حتى توقفت ذات يوم حين اقترب سن الثلاثين ونظرت خلفي ..
وجدت أن الجميع قد عاش شبابه .. من طلعات الساحل إلى التجارب العاطفية إلى السهرات الصباحي في لعب الاستميشن – لم ألعبها أبدًا – ثم الاستقرار والخطوبة والزواج .. ونما له كرش لا بأس به يربت عليه راضيًا عن حياته ..
أما أنا فقد قضيت حياتي أشكل كيانات ثقافية وأقرأ كتبًا معقدة .. وأتعامل مع بشر متحذلقين لا يتكلمون كالبشر الطبيعيين .. ويحيلون كل شيء إلى معضلة ثقافية فلسفية .. الواحد منهم حين يريد تلبية نداء الطبيعة لا يقول ببساطة "أريد دخول الحمام" .. بل يقول "شلالات الملح ستغرق الأنهار السرمدية " !
أذكر أن أحد الأدباء الكبار جدًا .. تواصلت معه بصعوبة لأحاول إقناعه أن ننظم له محاضرة .. وبعد الاتفاق سألته عن عنوان وموضوع المحاضرة لأبدأ الدعاية .. قال لي بالحرف "شوفوا انتوا عايزين إيه مش فارقة" .. فوضعت عنوانًا مطاطًا هو "مفهوم التطور الحضاري" .. وجاء الرجل وظل ساعتين يرطن دون أن أفهم منه حرفًا .. ولم أسمع كلمة "تطور" أو "حضارة" طوال المحاضرة !
حتى في الارتباط .. كانت لدي تجربتا خطوبة من نفس الوسط المثقف المعقد .. وتخلت كلتاهما عني لأسباب لم أفهمها حتى الآن .. مثقفين بقى !!
أي فترة شباب سخيفة هذه ؟
لم أستفد منها شيئًا .. ماديًا كنت أنفق أموالي على هذه السخافات .. معنويًا لم أحصد سوى مجموعة رائعة من العقد النفسية .. إذا عاد "فرويد" إلى الحياة ورآها لمات فرحًا من جديد !!
كما استفدت من بقية أعداد المجلة إياها .. من الواضح أن المطبعة الأخرى كانت جيدة .. فالورق يمتص زيت البطاطس جيدًا ..ويمسح الزجاج بكفاءة ..
لذا فقد رفعت شعار الهيافة !
أقضي سهراتي في التدخين بالمقهى .. أو مشاهدة فيلم خفيف .. أو متابعة مشروعي الطموح في مشاهدة مسلسلات سبيس تون القديمة لكن بنسخها اليابانية الأصلية غير الممنتجة ..
قطعت علاقتي بكل المثقفين المتحذلقين ذوي الأنهار السرمدية .. ووطدت علاقتي بكل من هو فرفوش ..
لم أعد أشغل بالي بأي شيء يتطلب أكثر من 5 دقائق من التفكير .. ولا أهتم بأي حدث سياسي أو عالمي .. طالما أنه بعيد عن غرفتي وعن القهوة التي أقضي فيها وقتي ..
وأضحك حين أتذكر شغفي بمصير المغول .. فليذهبوا إلى الجحيم وأنا مالي !!!
تحولت الحياة بالنسبة لي إلى نكتة طويلة .. حين يكلمني أحدهم أركز على استخراج "الإفيه" من كلامه ..
لا آخذ أي شيء على محمل الجد .. فقد استهلكت كل جديتي من عام 2008 إلى عام 2018 .. ولم يعد في خزائني سوى أكوام من التفاهة ..
لذا فلتحيا التفاهة 3 مرات ..
والمجد للهيافة ولا شيء إلا الهيافة ..

❤❤
ReplyDeleteأحسنت 👍
ReplyDelete