عن العوالم !
أرى ابتسامتك الخبيثة ولعابك الذي بدأ يسيل حين قرأت العنوان .. لا .. ليس مقالًا عن الراقصات .. بل عن العوالم التي مفردها "عالم" .. ليس لامؤاخذة "عالمة" ..
فمنذ سنوات حضرت إحدى حفلات التوقيع لكاتب جديد ...
دخلت القاعة ولم يكن فيها سوى رجل أشيب خمسيني .. يجلس في الصف الخلفي ..
انتقيت أبعد مكان عنه تلافياً لأي كلام معه .. خاصة والصداع يفتك برأسي .. والمشاكل حينذاك كانت تحاصرني من كل اتجاه .. فلم أكن مهيئًا نفسياً لأي تواصل مع البشر بخلاف تحطيم رؤوسهم .. ولولا دعوة شخصية لما حضرت أصلا ولاكتفيت بالجلوس في أي مكان هادئ ..
المهم أني جلست أرشف قهوتي بصمت .. لكن الرجل ظل يحاصرني بنظرات ودود وابتسامة عريضة ..
ثم قال بهدوء : "مش عارفني ؟"
نظرت له متمعناً .. ليس عمي ولا خالي ولا والدي على ما أظن .. هل هو رئيس الوزراء ؟ وزير الثقافة ؟ لا لم أضربه من قبل .. أنا أذكر كل من أذقته علقة ساخنة يوما ..
تحولت نظراتي إلى نظرة شبه متوسلة أن يعفيني من لعبة "أنا مييييين ؟" هذه .. فقال وابتسامته تزداد عرضاً حتى أوشكت أن تخرج من حدود وجهه :
-"عبد السلام حسنين .. أنا مؤلف رواية (الخنفس الحزين)"
طبعاً الأسماء وهمية لأني - ببساطة – نسيتها تماماً بعد الحفل ..
المهم أني حاولت أن أتذكر أي شيء .. لا .. لم أسمع عنه أو عن روايته من قبل .. لكن لا بأس .. فلنرفق بهذا البائس .. رسمت على وجهي علامات المفاجأة والانبهار كإني العضو المؤسس في جمعية محبي الخنافس الحزينة ..وقلت له بسعادة :
- "عارفك طبعاً .. يااااااااه .. الخنفس الحزين ؟ ياااااااااااااااه"
اتسعت ابتسامته أكثر حتى خشيت أن يتحطم فكه .. وهتف بحماس :
- "قاعد بعيد ليه ؟ تعالى .. تعالى أقعد جنبي"
نهضت مهموماً وأنا أفكر جديا في خنقه حتى الموت ثم إحراق جثته ..
- "الخنفس الحزين دي قعدت أكتب فيها كتير .. خدت مني مجهود جامد .. كانت هتتطبع في قصر ثقافة الأنفوشي لما كان ماسكه الكاتب العظيم (ممدوح السناكحلي) .. عارفه طبعاً أكيد .. بس طبعاً أعداؤه كتير ومشوه من القصر .. ومسكه شخص يعني بدون ذكر أسماء .. ولا أقولك هقول اسمه .. أنا عمري ما كنت بخاف .. مسكه (عبد العزيز الشهبوري) وشلته .. خربوه !!"
ثم نظر لي نظرة حادة وأضاف بصرامة :
- " إوعى تكون من شلة الشهبوري أو بتحب أعماله .."
هززت رأسي بعنف لأنفي التهمة الشنيعة ورسمت علامات الاشمئزاز على وجهي .. الشهبوري ؟ ده خائن وعميل !! عليه اللعنة !!
وأدركت أن الرجل لن يحل عن رأسي المسكين للأسف ..
- "الشهبوري فضل يحاربني .. لحد ما بعدني عن قصر الأنفوشي .. و رحت طبعت الرواية في مكان تاني .. والحمد لله نجحت نجاح ساحق وكسرت الدنيا !!"
كسرت الدنيا ؟ صحيح أني انطوائي بطبعي لكني حتماً كنت سأسمع عن الخنفس الحزين إذا كانت بهذا النجاح !!
أنقذني قدوم شخص آخر يقاربه في السن .. وقبل أن أتنهد ارتياحاً فوجئت بالعم "عبد السلام حسنين" يصرخ من الفرحة .. ويحتضن ذاك الشخص
- "أستاذنا الكبير (سعداوي الشوربجي) شخصياً ؟ عميد أدباء اسكندرية !!"
من ؟ أين ؟ كيف ؟ عميد ؟؟
صافحني الأخ "سعداوي" بتواضع كأنه (نجيب محفوظ) شخصياً يصافح أحد المعجبين ..
وجلس الاثنان سوياً .. وخلعت أنا مبتعداً قبل أن يتمسك بي هو الآخر .. واستمعت لحوارهما مرغماً :
عبسلام : إزيك يا أستاذنا .. وأخبار اسكندرية إيه ؟
سعداوي (مع نظرة هيام بلهاء) : اسكندرية .. ياااه على اسكندرية .. تصدق يا عبسلام .. كاتبة شابة قال إيه جاية تقولي عايزة تكتب كتاب عن اسكندرية .. وعايزة تستعين بخبرتي !! تعرف إيه دي عن اسكندرية ؟ تعرف إيه عن المشي في شارع (غراب الأعمش) وقت الفجرية .. وطبق البليلة من عند (أم سيد) عالبحر ؟
عبسلام (يشد في شعره حرفياً من فرط النشوة) : الله .. الله يا أستاذنا !! الله !!
سعداوي : فاكر يا عبسلام ؟ فاكر لما كنا بنحضر ندوات الأستاذ الكبير (محسن الشنكحاوي) ؟ الندوات دي طلعت عظماء غيروا وجه اسكندرية خالص !!
عبسلام (يلطم من فرط النوستالجيا) : الله !! الله !! أستاذ محسن .. الله !!!
وصل كاتبنا الهمام ـ عريس حفل التوقيع ـ بعدها لينقذني .. واستغللت الفرصة لأجلس في مقعد بجوار الحائط .. وذهبت في نوم عميق حتى انتهت الحفلة !!
***
استعدت توازني بعد عدة أيام .. وأخذت أفكر في هذه الأحداث الغريبة ..
هذان شخصان يعيشان في عالم مستقل .. عالم آخر له مقاييس وأبطال ومشاهير وربما رئيس مختلف !!
هل هما مجنونان ؟ لا أعتقد ..
ففي زمننا أصبحت "الرطرطة" هي اسم اللعبة ..
هناك مليون مطرب .. ومليون كاتب .. ومليون مصور .. كل شيء هناك الكثير منه !
والنتيجة أن كل مجموعة انغلقت على نفسها .. وصار لها فنانوها ورموزها المستقلون !!
مثال .. أنت شخص حداثي تسمع أغاني الأندرجراوند ... ربما كان "أمير عيد" هو أفضل مغنٍ بالنسبة لك ... لكنك قد تتحدث عنه في تجمع ما .. فلا تجد من يعرفه !!
هل معنى هذا أنه فاشل ولم ينجح ؟ بتاتًا !!
كل ما في الأمر أنه ليس من "عالمهم" .. هم من عالم آخر قد يكون أفضل من فيه هو عبد الحليم حافظ أو حماقي أو محسن هنداوي ... هنداوي مين ؟ لا أعرف ... لكن حتمًا هناك مطرب بهذا الاسم !!
الأزمة هنا أنك قد لا تعرف إذا كنت ناجحًا فعلًا في مجالك أم لا ..
قد يكون لديك جمهور من ألف شخص يعتبرونك أعظم اكتشاف حصل منذ اكتشاف الحشيش !
وقد يكون هناك مليون آخرون يرونك أحمقًا فاشلاً ... وآخرون لم يسمعوا عنك أساساً !!
هذه الأزمة هي جزء من اشمئزازي من الواقع الحالي ...
لم تعد هناك معايير للنجاح ... لا توجد معايير للموهبة ..
والكارثة أن تجد شخصا مثل عبسلام ... لم تسمع عنه في حياتك .. لكنه نجم في عالم البعض ...
لتجد الجميع من حولك قد تحولوا إلى نجوم ... كل شخص له جمهور من 10 أشخاص يتعامل معك بتعالٍ وعنتظة ...
والنتيجة ؟ اتساع الهوة بين الجميع ... وتفرق البشر إلى مجموعات صغيرة .. وكل مجموعة ترى نفسها الفرقة الناجية ... وتحيط نفسها بأسوار عالية ..
النتيجة هي فوضى كاملة .... لأن الأمر لا يقتصر على المواهب والفنون ... بل ينطبق على الآراء السياسية والدينية والحياة العملية و .. و ..
فقد يكون لك رأي سياسي تقتنع به تمام الاقتناع .. وتجالس يومًا جماعة من عالم مختلف ... فيثبتون لك بالدليل أنك أحمق .. وأن رأيهم هو الصواب .. والكارثة أنك قد تقتنع !!
جربت فترة أن أتابع توفيق عكاشة ... اكتشفت بعد يومين أن أي شخص قد يتغير تفكيره تمامًا إذا واظب على متابعته مدة طويلة !
إذن لم لا تفكر ؟
قد تكون مسلماتك ومعتقداتك وثوابتك قد تكونت من العالم الذي تعيش فيه .. ربما تكون خاطئة .. أو مجرد تخاريف ..
من أدراك أن عالمك هو الصحيح ؟ من أدراك أن مطربك المفضل موهوب ؟ ربما يكون حمارا ينهق لا أكثر !
أذكر أني أعطيت إحدى المثقفات كتبًا لد.أحمد خالد توفيق لأنها فاجأتني أنها لم تسمع عنه من قبل !!
في اليوم التالي أعادتها لي قائلة ببرود : "خد الكتب دي .. مليش أنا في الهري ده" !!
شعرت بالإحباط .. الأمر أكبر من مجرد اختلاف آراء ... أصبح أي تواصل مع البشر معناه عبثًا بالثوابت والمبادئ ...
كم مرة شعرت أن صديقك تغير ولم يعد نفس الشخص ؟
هو لم يتغير .. هو فقط انتقل لعالم آخر .. اهتماماته مختلفة .. وأفكاره مختلفة .. وأنت لست جزءًا منه !
هل شعرت بالدوار والإحباط ؟
إذن نصيحتي لك ـ كالعادة ـ هي أن تتجنب البشر ... تعتزلهم تمامًا .. وتحتفظ بمعتقداتك لنفسك .. وأن تكون أنت الجماعة ... ولا تستمع لأحد .. ولا تلزم أحدًا أن يستمع لك ...
في الواقع حل أي مشكلة هو أن تعتزل البشر .. هذا هو الطريق الملكي نحو السعادة .. و ..
لكن هذا مقال آخر .. إذن ليكونن هذا المقال القادم ...

000
ReplyDelete