Thursday, April 11, 2019

حيوان الشيب



حيوان الشيب .. 

في المقال قبل الماضي وعدت أني سأتكلم في المقال التالي عن مميزات اعتزال البشر ... لكني تكلمت عن اكتئابي وتجاهلت الاعتزال تماماً .. 

طبعًا لم ينتبه أحد .. ولم يهاجمني أي قارئ ليذكرني بوعدي .. ببساطة لأني لا أملك قراء أصلًا !! 

لا أحد يقرأ ما أكتب .. لأن الجميع يوهم نفسه أنه سعيد في حياته .. ولا يريد أن يلوث سعادته الوهمية هذه بهلوسات كاتب كئيب غريب الأطوار !! 

يقول لي العيسوي أن كتاباتي تعبر عن الحقيقة .. والبشر يكرهون الحقيقة .. 

أما رأيي فهو أن الناس يكرهون الاكتئاب .. 

فحين تكون كئيبًا وتشكو همك لصديق أو حبيبة .. سيساندك بحماس في البداية .. ثم يكتفي بعدها بمواساتك .. ثم يتحول الأمر إلى ابتسامة مشفقة مع كلمات مثل "معلش .. كله بيعدي" .. وفي النهاية يبدأ التهرب منك ومن وجهك الكئيب العكر .. والحجة الجاهزة طبعًا أنه "أصلي مفحوت في مليون حاجة والله" .. 

وهنا مربط الفرس .. 

ففي بداية أي علاقة سواء كانت صداقة أو حبًا .. تبدأ في اكتشاف مميزات الطرف الآخر .. وتنبهر بها .. 

ولأن الإنسان كائن دنيء ولا يملأ عينه إلا التراب .. مع مرور الوقت تبدأ في التعود على مميزات الطرف الآخر .. وتعتبرها من حقوقك المكتسبة في الحياة .. وتبدأ عيوبه ـ في نفس الوقت ـ في التضخم في عينيك .. إلا أن تستيقظ يومًا لتجد نفسك لا تطيقه .. 

لم تفهم ؟ سأعطيك مثالًا .. 

حين تتعرف على صديق وتجده كريمًا شهمًا جدعًا معك .. وكلما احتجته تجده بجوارك فورًا .. 

في البداية ستنبهر به .. وتراه صديقًا مخلصًا .. 

لكن مع الوقت ستعتاد وجوده .. وستصبح جدعنته أمرًا عاديًا لا يستلفت انتباهك .. ستعتمد دائماً عليه .. بل وستغضب منه إذا لم يكن بجانبك في إحدى المرات .. وستبدأ ملاحظة أنه سمج ثقيل الدم ... والإنسان قد يعتاد الجمال ويتوقف عن الانبهار به .. لكنه لا يعتاد العيوب ولا يتوقف عن الامتعاض منها .. واسأل عن ذلك أي زوج خائن شعر بالملل من زوجته التي كافح للزواج منها !! 

لذلك تجد الجميع يتكلم عن روعة البدايات .. وستجد ألف قصة حب بدأت متأججة كجهنم ثم انطفأت فجأة وتحولت إلى أطلال يمكن أن يكتب عنها أحد شعراء الجاهلية قصيدة عظيمة .. 

أما العظماء من أمثالي فلا ينخدعون بجمال البدايات ... بل يفكرون فورًا في خوازيق النهايات .. 

راجع معي النهايات وقارنها بعلاقاتك في حياتك .. 

أصدقاؤك تفتر علاقتك بهم مع الوقت .. وتتحول الصياعة اليومية معًا إلى لقاء كل أسبوع .. ثم كل شهر .. ثم كل عام .. ثم تلتقي بأحدهم بعد عشرين عامًا صدفة .. ويحلف بالطلاق أن يرتب تجمعًا للشلة لتعود أمجاد الماضي .. طبعًا في المشمش .. 

حبيبتك تبدأ علاقتك بها حالمة ورومانسية .. تشمل القصائد والأغاني العاطفية وتلامس الأيدي الخجول .. ثم ينتهي الحب بأبشع صورة .. إما بالانفصال والبلوك .. وإما بالزواج .. 

تتحول الرومانسية إلى خناقات ونكد .. ويبدأ الشرخ الأبدي في الظهور .. 

علاقتك بأهلك تبدأ بك طفلًا يرى والده بطلًا خارقًا وأمه ينبوع الحنان .. ثم مراهقًا يشعر أن أهله ضيقوا الأفق .. ثم شابًا يرى أن أهله لا يفهمونه ولا يفهمهم .. توطئة لاقتصار العلاقة على زيارات لقبورهم .. 

هل لاحظت ؟ كل العلاقات تنتهي نهاية سوداء !! 

فنحن بشر مختلفون .. ولا يمكن أن ترتاح مع من يختلف عنك .. حتى لو تظاهرت أنك شخص متحضر تجيد التعايش مع الغير .. 

ففي داخل كل منا طفل مزعج يحلم أن تفكر البشرية جمعاء مثله .. ويحبون ما يحبه .. ولن تجد السلام حتى ترضي ذاك الطفل .. 

كيف ترضيه ؟ باقتصار علاقاتك على الشخص الوحيد الذي يماثلك تمامًا في التفكير .. أنت !!! 

الحل ببساطة أن تبقى في "الوضع صفر" كما يقول خبراء الحرب .. تبقى وحيدًا لا تملك ما تخسره .. 

لا يكونن لك شخص عزيز ... تقتدي بـ"بوذا" الذي جلس وحيدًا في منزله أثناء عاصفة .. أغلق بابه على نفسه .. جلس على الأرض مسترخيًا .. لا أملاك .. لا أصدقاء .. لا شيء يخشى فقده .. وقال بهدوء "فلتزأر العاصفة" .. 

لم تقتنع ؟ 

أراهنك حالًا أن تفكر في كل مشاكل حياتك .. ولأكن حمارًا إذا لم تكتشف أن 90% على الأقل منها بسبب علاقاتك بالبشر !! 

ألم تر يومًا شخصًا بشوشاً سعيدًا دخل في علاقة حب وانتهى به الأمر منطفئًا كئيبًا لا يسمع إلا أغاني "مصطفى كامل" عن خوازيق الغرام ؟ 

هل رأيت شلة أصدقاء ليس فيها اثنين لا يطيقان بعضهما ولا يكفان عن الشجار واغتياب بعضهما ؟ 

لم تقتنع ؟ إذن فالعيسوي كان على حق .. الناس لا تحب الحقيقة فعلًا .. حتى لوكانوا يرونها بأم أعينهم ... 

تسألني عن حيوان الشيب عنوان المقال ؟ تحاول تغيير الموضوع أيها الخبيث !! 

الواقع أني احترت في اسم المقال .. فكتبت على جوجل "حيوان يعيش وحيدًا" .. لأجد هذا الحيوان ذو الاسم الغريب .. حيوان الشيب .. 

هذا الحيوان يعيش حياته منفردًا .. وحتى لا يتزوج .. لأنه هجين بين الضبع والذئب .. سلعوة ؟ لا .. السلعوة هجين الذئب والكلب .. 

فيقال أنه قد توجد أنثى ضبع قبيحة عجفاء .. لا تجد ذكرًا في موسم تزاوج الضباع .. فتضطر للتزاوج مع ذئب وخلاص !!! 

وتنجب ذلك الكائن الساحر .. الشيب .. 

تأمله في الصور ... جليلًا شامخًا قويًا متفردًا .. لا زوجة نكدية ولا مضطر للسير في قطيع كالأبله خلف قائد لا يقل عنه بلاهة !! 

لذلك هو موشك على الانقراض .. فكل هذا الجمال لا تستحقه الدنيا ... 

وكذلك البشر .. ينقرض العباقرة الذين قرروا اعتزال العالم .. ويتزوج الحمقى والبلهاء ويتناسلون ليمتلئ العالم بذريتهم التي لن تختلف عنهم !! 

كن وحيدًا .. كن متفردًا .. إياك والبشر .. ابتعد عنهم تكن مرتاح البال .. 

لازلت غير مقتنع ؟ اعتبر أنك لم تقرأ شيئًا واذهب إلى الجحيم .. 



No comments:

Post a Comment